الثلاثاء، 30 نوفمبر 2010

الكابالا - القابالاه ( 3 )

قبَّالاة الزوهار والقبَّالاه اللوريانية  Zohar and Lurianic Kabbalah
تنقسم القبَّالاه إلى تيارين أساسيين، أو هي تيار أساسي واحد تفرَّع إلى عدة تيارات. أما التيار الأول فهو قبَّالاة الزوهار نسبة إلى كتاب الزوهار. وحينما تكون الإشارة إلى القبَّالاه بشكل عام، أو إلى القبَّالاه دون تخصيص، فإن المقصود عادةً هو قبَّالاة الزوهار («القبَّالاه النبوية» حسب تعبير جيرشوم شوليم)، وليس «القبَّالاه اللوريانية» نسبة إلى إسحق لوريا («القبَّالاه المشيحانية» حسب تعبير جيرشوم شوليم نفسه).
والواقع أن البنية الفكرية لقبَّالاة الزوهار هي البنية العامة للقبَّالاه قبل دخول الأفكار اللوريانية عليها. ويمكن الرجوع إلى مدخل القبَّالاه اللوريانية لمعرفة الفروق العامة بين التيارين. ومن أهم مفكري قبَّالاة الزوهار إبراهيم أبو العافية، وكذلك موسى كوردوفيرو آخر ممثلي قبَّالاة الزوهار، وهو أستاذ لوريا مؤسس القبَّالاه اللوريانية.
الزوهار
 «زوهار» كلمة عبرية تعني «الإشراق » أو «الضياء». وكتاب الزوهار أهم كتب التراث القبَّالي، وهو تعليق صوفي مكتوب بالآرامية على المعنى الباطني للعهد القديم، ويعود تاريخه الافتراضي، حسب بعض الروايات، إلى ما قبل الإسلام والمسيحية، وهو ما يحقق الاستقلال الفكري (الوهمي) لليهود، وكتابته بلغة غريبة، تحقق العزلة لأعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية. ويُنسَب الكتاب أيضاً إلى أحد معلمي المشناه (تنائيم) الحاخام شمعون بن يوحاي (القرن الثاني)، وإلى زملائه، ولكن يُقال إن موسى دي ليون (مكتشف الكتاب في القرن الثالث عشر) هو مؤلفه الحقيقي أو مؤلف أهم أجزائه، وأنه كتبه بين عامي 1280 و1285، مع بدايات أزمة يهود إسبانيا. والزوهار، في أسلوبه، يشبه المواعظ اليهودية الإسبانية في ذلك الوقت. وبعد مرور مائة عام على ظهوره، أصبح الزوهار بالنسبة إلى المتصوفة في منزلة التلمود بالنسبة إلى الحاخاميين. وقد شاع الزوهار بعد ذلك بين اليهود، حتى احتل مكانة أعلى من مكانة التلمود، وخصوصاً بعد ظهور الحركة الحسيدية.
ويتضمن الزوهار ثلاثة أقسام هي: الزوهار الأساسي، وكتاب الزوهار نفسه، ثم كتاب الزوهار الجديد. ومعظم الزوهار يأخذ شكل تعليق أو شرح على نصوص من الكتاب المقدَّس، وخصوصاً أسفار موسى الخمسة، ونشيد الأنشاد، وراعوث، والمراثي. وهو عدة كتب غير مترابطة تفتقر إلى التناسق وإلى تحديد العقائد. ويضم الزوهار مجموعة من الأفكار المتناقضة والمتوازية عن الإله وقوى الشر والكون. وفيه صور مجازية ومواقف جنسية صارخة تجعله شبيهاً بالكتب الإباحية وهو ما ساهم في انتشاره وشعبيته. والمنهج الذي يستخدمه ليس مجازياً تماماً، ولكنه ليس حرفياً أيضاً، فهو يفترض أن ثمة معنى خصباً لابد من كشفه، ويفرض المفسر المعنى الذي يريده على النص من خلال قراءة غنوصية تعتمد على رموز الحروف العبرية، ومقابلها العددي. وتُستخدَم أربعة طرق للشرح والتعليق تُسمَّى «بارديس»، بمعنى «فردوس» وصولاً إلى المعنى الخفي، وهي:
1
ـ بيشات: التفسير الحرفي.
2
ـ ريميز: التأويل الرمزي.
3
ـ ديروش: الدرس الشرحي المكثَّف.
4
ـ السود: السر الصوفي.
والزوهار مكتوب بأسلوب آرامي مُصطَنع، يمزج أسلوب التلمود البابلي بترجوم أونكيلوس، ولكن وراء الغلالة الآرامية المصطنعة يمكن اكتشاف عبرية العصور الوسطى. وهو كتاب طويل جداً، يتألف من ثمانمائة وخمسين ألف كلمة في لغته الأصلية.
والموضوعات الأساسية التي يعالجها الزوهار هي: طبيعة الإله وكيف يكشف عن نفسه لمخلوقاته، وأسرار الأسماء الإلهية، وروح الإنسان وطبيعتها ومصيرها، والخير والشر، وأهمية التوراة، والماشيَّح والخلاص. ولما كانت كل هذه الموضوعات مترابطة بل متداخلة تماماً في نطاق الإطار الحلولي، فإن كتاب الزوهار حين يتحدث عن الإله، فإنه يتحدث في الوقت نفسه عن التاريخ والطبيعة والإنسان، وإن كان جوهر فكر الزوهار هو تَوقُّع عودة الماشيَّح، الأمر الذي يخلع قدراً كبيراً من النسبية على ما يحيط بأعضاء الجماعات اليهودية من حقائق تاريخية واجتماعية. ويتحدث الزوهار عن التجليات النورانية العشرة (سفيروت) التي يجتازها الإله للكشف عن نفسه. كما يشير الكتاب إلى هذه التجليات باعتبارها أوعية أو تيجاناً أو كلمات تشكل البنية الداخلية للألوهية. وتُعَدُّ هذه الصورة (رؤية الإله لا باعتباره وحدة متكاملة وإنما على هيئة أجزاء متحدة داخل بناء واحد) من أكثر أفكار الزوهار جسارة، كما كان لها أعمق الأثر في التراث القبَّالي.
وقد ظهرت أولى طبعات الزوهار خلال الفترة من 1558 إلى 1560 في مانتوا وكريمونا في إيطاليا. وظهرت طبعة كاملة له في القدس (1945 ـ 1958) تقع في اثنين وعشرين مجلداً، وتحتوي على النص الآرامي يقابله النص العبري. وقد ظهرت ترجمات لاتينية لبعض أجزاء كتاب الزوهار (ابتداءً من القرن السابع عشر). كما تُرجم إلى الفرنسية في ستة أجزاء (1906 ـ 1911)، وإلى الإنجليزية في خمسة أجزاء (1931 ـ 1934). ومن أشهر طبعاته طبعة فلنا التي يبلغ عدد صحفاتها ألفاً وسبعمائة صفحة.
القــــبَّالاه النبويــــةProphetic Kabbalah
«القبَّالاه النبوية» هي قبَّالاة الزوهار. ومن أهم دعاتها إبراهيم أبو العافية، وآخر ممثليها هو موسى كوردوفيرو، أستاذ لوريا وإسبينوزا.
إبراهـيم أبو العافـية (1240-1292) (Abulafia (Abraham Ben Samuel
قبَّالي وُلد في إسبانيا، وانخرط في دراسة الشريعة والتلمود، وفي الدراسات والحسابات القبَّالية. وقد درس كذلك مؤلَّف ابن ميمون دلالة الحائرين ، ولكنه فسره وفق المنهج القبَّالي. سافر إلى فلسطين واليونان وإيطاليا، باحثاً عن أسباط يسرائيل العشـرة المفقودة. ولما بلغ أبو العافية الواحدة والثلاثين من عمره غلبته روح النبوة، وزَعم أنه وصل إلى معرفة الإله الحقيقي، وفي هذه الفترة قيل أيضاً إن الشيطان كان يشاغله عن اليمين بقصد فتنته وإرباكه، بيد أنه لم يشعر أنه بدأ يكتب بوحـي النبـوة إلا حـين بلغ الأربعين. وفي ذلك الوقـت، أي في عام 1280، عاد إلى إيطاليا حيث جذب عدداً كبيراً من العلماء اليهود الشبان الذين اتبعوا تعاليمه ثم وجدوا أن ثمة تشابهاً عميقاً بينها وبين المسيحية فتنصَّروا! وفي العام نفسه، قرر أبو العافية أن يقنع البابا بأن يتهوَّد، فقُبض عليه وصدر ضده حكمٌ بالقتل حرقاً ولكنه هرب من السجن. ثم ظهر مرة أخرى، بعد أربعة أعوام، في ميسينا (صقلية)، وأعلن أنه الماشيَّح. وقد تصدت له المؤسسة الحاخامية وفندت ادعاءاته. وربما كانت حروب الفرنجة الدائرة آنذاك تشكل السياق الدولي لدعاواه المشيحانية، كما كانت أزمة يهود إسبانيا المتزايدة تشكل السياق المحلي لدعواه. وقد كتب أبو العافية عدة مؤلفات عن القبَّالاه، وينسب إليه البعض تأليف الزوهار الذي ظهر في حياته (ولكن جيرشوم شوليم لا يتفق مع هذا الرأي). وقد أطلق شوليم مصطلح «القبَّالاه النبوية» على رؤية أبى العافية، فهو يرى أن النفس الإنسانية أصلها الإله، ولكن الحياة اليومية تستغرقها وتفرض الحدود والقيود عليها، وهي حدود وقيود لها قيمتها من حيث حفظها للفرد من أن يجرفه تيار الكوْن، ولكن كيما يتصل الإنسان بالتيار المقدَّس وبأصله الإلهي مرة أخرى، لابد من فك القيود وتجاوز الحدود. ويطرح الدكتور صبري جرجس في كتابه المهم التراث اليهودي الصهيوني والفكر الفرويدي السؤال التالي «ألسنا نرى الصلة بين هذه النظرية ونظرية الكبت وضرورة التحرر منه إذا شاء الإنسان أن يتخفف من متاعبه النفسية التي تحد من شعوره بالتحرر والانطلاق؟». ثم يستطرد قائلاً: وانطلاقاً من هذا، يصبح هدف رسالة أبى العافية هدفاً نفسياً وهو إماطة اللثام عن الروح وفك القيود التي تربطها. وقد قدَّم أبو العافية في هذا الصدد نظريته عن تركيب الحروف بغرض ملاحقة الطريق الداخلي، وتُعرَف باسم «حوخمة هاتسيروف»، أو «علم تشابك الحروف» الذي يستطيع القبَّالي بمقتضاه أن يدرك منه اسم الإله الذي يعكس المعنى الخفي للكون.
«
وثمة طريقتان لإبراهيم أبو العافية في التأمل بغية الوصول إلى ما يهدف إليه من تحرير الروح. الأولى هي الطريقة التفسيرية التي تستند إلى استخدام حروف الهجاء الأبجدية العبرية استخداماً حراً. وعند التأمل، كانت هذه الحروف تُفصَل ثم تُجمَع، وبعملية الفصل والجمع هذه كانت تظهر أفكار جديدة. وقد كان عند أبى العافية إحساس عميق بالمنطق الخفي للحروف، فترتيبها في نظره ليس مجرد عملية عرفية أو متعنتة، بل كان ترتيباً يتم وفقاً لقواعد عليا. ومن نتيجة حركات هذه الحروف، يستطيع المرء أن يصل إلى استبصار عميق بطبيعة الجوانب المقدَّسة ـ فهل من العسير علينا أن نرى، في نطاق هذا المفهوم، أن منطق عالم الإله الخفي عند أبى العافية قد أصبح منطق اللاشعور عند فرويد؟.
«
وقد كانت هذه الطريقة في التأمل تمهيداً للطريقة الثانية التي عُرفت باسم التجاوز عن طريق «القفز والإغفال». ووصف باكان نقلاً عن شوليم هذه الطريقة بقوله: سيُدهش القارئ المعاصر حين يرى وصفاً مفصلاً لطريقة كان أبو العافية وأتباعه يسمونها «القفز والإغفال» للانتقال من فكرة إلى أخرى. والواقع أن هذا منهج رائع في استخدام الترابط كوسيلة للتأمل. ولا ترادف هذه الوسيلة منهج التداعي الحر المتبع في التحليل النفسي مرادفةً كلية، ولكنها تتضمن الانتقال من فكرة ما إلى أخرى وفقاً لقواعد معيَّنة تتسم بالمرونة. وكل قفزة تفتح ميداناً جديداً له خصائصه، ويستطيع العقل داخل هذا الميدان أن ينتقل بحرية من فكرة لأخرى، أي أن القفز يربط بين عناصر من الأفكار الحرة والموجهة ويؤدي إلى نتائج عجيبة من حيث توسيع دائرة الشعور، كما أن هذا القفز يدفع على الفور بعملية خبيئة في العقل، أي أنه يحـررنا من سـجن الدائرة الطبيعية وينتقل بنا إلى حدود «الدائرة الإلهية». ثم يتساءل باكان بعد ذلك قائلاً: "ألا يُذكِّرنا هذا التقييم من قبل شوليم بمنهج أبى العافية بشــأن «الترابط الحر» في التحليل النفسي، من حيث تُعَدُّ هذه النشوة مع مضمونها الذي ينطوي، فيما يزعم لها، على إدراك الإله، هي الهدف من التأمل عند أبى العافية، ونشوة الاستبصار مع مضمونها الذي ينطـوي على معرفـة الذات هي الهدف من التحليل عند فرويد".
"
ويُعَدُّ المعلِّم القبَّالي أبو العافية شخصاً بالغ الأهمية بالنسبة لعملية التحويل التي ينبغي أن تحدث للشخص، وهذه العملية تحتاج إلى من يحركها من الخارج ومن يحركها من الداخل، والمعلم هو المحرك من الخارج. وفي حالة النشوة، يحدث نوع من التوحد مع المعلم يصبح بعد ذلك توحداً مع الإله وينتهي بتوحد سام مع الذات. وفي هذه الحالة، يكون التوحد قد تم أيضاً بين الإنسان والشريعة، ولعل هذا هو المقصود من قولهم إن الإنسان هو الناموس أو الشريعة. ويتساءل باكان أيضاً: ألا يذكرنا هذا بمعلم التحليل النفسي الذي يُعَدُّ شخصاً بالغ الأهمية في عملية التحويل التي لابد منها لمن يود ممارسة التحليل فيما بعد؟ أفلا يذكرنا ذلك أيضاً بنشوة الاستبصار التي تحدث أثناء التحليل التعليمي والتي يتم فيها نوع من التوحد مع المعلم الذي هو السبيل إلى معرفة الذات، أي السبيل إلى أن ينتقل الطالب من طور المران إلى طور الممارسة؟".
ومن المستبعد أن يكون فرويد قد درس فكر أبى العافية ومؤلفاته. ومع هذا، يجب أن نتذكر أن الفكر القبَّالي كان الفكر المسيطر على اليهودية في القرن التاسع عشر، وربما يكون فرويد قد انتظم في حضور محاضرات أدولف جيلينك الذي حرَّر أعمال أبى العافية. وفي الواقع، فإن أدولف جيلينك كان من أهم الحاخامات دارسي القبَّالاه، كما كان من أشهر الوعاظ في مدينة فيينا مسقط رأس فرويد والمدينة التي قضى فيها معظم حياته.
إسحق أبرابانيل (1437-1508) Isaac Abravanel
يهودي بلاط في إسبانيا. وهو مفسر للعهد القديم، ومؤلف لكتب ذات طابع فلسفي. وُلد في لشبونة، وكان أبوه مسئولاً عن خزانة الدولة فيها. وقد تلقى أبرابانيل تعليماً دنيوياً ودينياً كاملاً، ثم التحق بخدمة ألفونسو الخامس ملك البرتغال، الأمر الذي كان يعني أنه أصبح قريباً من النخبـة الحاكمة. ولكن الوضـع تغيَّر حينما اعـتلى جون الثاني العـرش، فقد اتبع سياسة القضاء على النبلاء والجيوب المختلفة للسلطة ليركز كل شيء في يد الدولة، وقد ثار النبلاء ضد هذه المحاولة. ويبدو أن أبرابانيل كانت تربطه علاقة بهؤلاء النبلاء، وخصوصاً أن قائد التمرد كان صديقاً له، ففر إلى طليطلة (إسبانيا) عام 1483، حيث أصبح خازن فرديناند وإيزابيلا عام 1484. وقد عمل هو وصديقه أبراهام سنيور في جمع الضرائب. كما قام الاثنان بتمويل الحروب ضد آخر الجيوب الإسلامية في غرناطة. وحينما سقطت غرناطة، صدر مرسوم طرد اليهود، ونُشر عام 1492. فحاول أبرابانيل أن يغيِّر القرار بتقديم هدية إلى فرديناند، ولكنها رُفضت وتم طرد اليهود. واستقر أبرابانيل (هو وأسرته) في البندقية عام 1503 حيث مات فيها.
ولأبرابانيل دراسات في العهد القديم، تتسم بشيء من الطابع العلمي والمنهجي، وتحولت فيما بعد إلى نقد العهد القديم. وقد حاول أن يضع النصوص المقدَّسة في سياق تاريخي. غير أن فكره الفلسفي لا يتسم بأي عمق أو أصالة. وفي السنوات الأخيرة من حياته، تبنَّى أبرابانيل رؤية صوفية، وزاد إيمانه بعقيدة الماشيَّح، ووضع ثلاثة كتب عن هذا الموضوع ( مصادر الخلاص، و خلاص الماشيَّح، و إعلان الخلاص) تُعَدُّ من أهم كتبه على الإطلاق، وتُوصَف أيضاً بأنها من أهم الكتب التي أشاعت الفكر المشيحاني وشجعت الحركات المشيحانية.
القــبَّالاه اللوريانيـةLurianic Kabbalah
أهم تطور حدث في داخل تاريخ القبَّالاه هو ظهور القبَّالاه اللوريانية (نسبة إلى إسحق لوريا). ولكن لا يمكن إغفال موسى كوردوفيرو الذي ساهم في صياغة أفكارها الأساسية (وقد تأثر إسبينوزا فيما بعد بأفكاره). ويمكن القول بأن القبَّالاه اللوريانية لا تختلف في أساسياتها عن قبَّالاة الزوهار، إذ أن البنية الحلولية القبَّالية العامة كامنة في القبَّالاه اللوريانية كمونها في قبَّالاة الزوهار. ولكن، مع هذا، يمكن أن نلخص بعض الاختلافات الأساسية بينهما فيما يلي:
1
ـ قبَّالاة الزوهار تعنى بأسرار الخلق، أي ببداية الكون، بينما تعنى القبَّالاه اللوريانية أساساً بالخلاص وبالنهاية. وينبع اهتمام قبَّالاة الزوهار بأسرار الخلق من اهتمامها بالخلاص المشيحاني بالنهاية، ولذا فهي تتناول البدايات كي تفسر النهايات.
2
ـ أسطورة الخلق في القبَّالاه اللوريانية أكثر تعقيداً وتناقضاً منها في قبَّالاة الزوهار.
3
ـ والاختلاف الأسـاسي هـو أن القبَّالاه اللوريانية تربط البداية بالنهاية، كما ربطت الباطن بالتاريخ والتأمل بالنزعة المشيحانية.
4
ـ الصورة المجازية الأساسية في قبَّالاة الزوهار هي الجنس، ولكنها في القبَّالاه اللوريانية تتمثل في كل من الجنس والنفي.
وتبدأ أسطورة الخلق في قبَّالاة الزوهار بفيض الإله الخفي، ولكنها في القبَّالاه اللوريانية تبدأ بعملية «تسيم تسوم» التي يمكن أن تُترجَم حرفياً بكلمة «انكماش» أو «تركُّز». ولكن يُستحسن تأدية معناها بتعبير «انسحاب نتج عنه تركُّز». فالإله المتخفي (الإين سوف) ينكمش داخل نفسه ليخلق فراغاً روحياً كاملاً. ويمكن تفسير هذا الانسحاب بأنه شكل من أشكال النفي، كأن الإله ينفي نفسه بنفسه إلى داخل نفسه، بعـيداً عن وجوده الكلي. وقد نتج عن هذا الانسحاب ميلاد الشر، فالحكم الصارم (الحدود والقيود التي تُفرَض على الأشياء التي ستنبع منها الأوامر والنواهي والتشريعات) كان قبل الانكماش جزءاً من كل، قطرةً في المحيط، ولكنه بعد عملية الانسحاب يتبلور ويصبح هو المحور. ثم يرسل الإين سوف في الفراغ شعاعاً ودروباً من نوره الذاتي وهي التجليات النورانية العشرة (سفيروت)، وهي مرحلة الفيض الإلهي على الكون (وتُعرف في العبرية باسم «أتسيلوت») التي أدَّت إلى ظهور آدم قدمون (الإنسان الأصلي)، وهو غير آدم أبى البشر. ويُلاحَظ أن الإنسان الأصلي في قبَّالاة الزوهار هو رمز لبناء التجليات ككل. أما عند لوريا، فهو يظهر قبل التجليات، ثم تخرج أشعة النور الإلهي من عيون الإنسان الأصلي وأذنيه وأنفه وفمه. وهذا الضوء الخارجي الذي انبثق من الإنسان الأصلي، آخذاً شكل شرارات، كان من المفترض جمعه في أوعية (كليم) من ضوء تتخذ أشكالاً تتناسب مع عملها في مرحلة الخلق. ولكن هذه الأوعية تحطمت، حسب رؤية لوريا، أثناء ملئها. ويعود هذا إلى أن الضوء الإلهي كان أقوى من أن تتحمله الأوعية فتحطمت، الأمر الذي أدَّى إلى تشتت الشرارات الإلهية وتبعثرها. ويُشار إلى هذه الواقعة بمصطلح «حادثة تَهشُّم الأوعية» (شفيرات هكليم) وهي الأخرى حادثة نفي. وإذا كان الانكماش (تسيم تسوم) هو نفي من خلال الانسحاب، فإن النفي هنا يتم من خلال الانتشار والتشتت. وقد سادت الفوضى واختلط النور والظلام، والروحاني والمادي، وهكذا دخل الشر والظلام إلى العالم. وقد عاد كثير من الشرارات إلى مصدرها الأصلي، ولكن نحو 288 شرارة التصقت بشظايا الأوعية المهشمة، وأصبحت هذه الأجزاء هي القشرة الخارجية (قليبوت)، أي قوى الشر التي أحاطت بالشرارات الباقية وحبستها.
ومنذ ذلك الوقت الذي حدث فيه هذا التهشُّم، لم يَعُد في الكون أي شيء كامل متكامل. فالنور الإلهي الذي كان يجب أن يستمر في مكان مخصص له، أي في الأوعية التي صنعها الإله، لم يَعُد في مكانه الصحيح لأن الأوعية تحطمت. وتظهر الخطة الإلهية للخلاص من خلال صور تُسمَّى «برتسوفيم» (حرفياً: «الوجوه» أو «السيمياء»، أي «القسمات» أو «ملامح الوجه») وهي مقابلة للتجليات النورانية العشرة (سفيروت) في قبَّالاة الزوهار ولكنها تأخذ هنا شكلاً أكثر بشرية وعددها خمسة:
1
ـ أريخ أنبين (عبارة أرامية وتعني حرفياً: «ذو الأنف الطويل» أي «الصبور» أو «المتحمل» أو «الذي عانى كثيراً» باعتبار أن الأنف دليل على الصبر)، وهو يقابل التجلي النوراني الأول «الكيتر» أو «التاج» في قبَّالاة الزوهار.

2، 3
ـ أبا وأما (الأب والأم). وهما يقابلان التجليين الثاني والثالث. وهما النمط الأعلى لهذا الزواج المقدَّس الذي يُعَدُّ نمطاً لكل وحدة فكرية وجنسية فيما بعد (ولنلاحظ هنا الأثر العميق للعقيدة والرموز المسيحية ولتواتر الصورة المجازية الجنسية في النسق الحلولي). وهذا التزاوج يزداد عمقاً بصعود الـ 228 شرارة التي تساقطت مع الأوعية المهشمة، والتي بعودتها إلى رحم البيناه تصبح قوة تبعث الحيوية، ولذا تُسمَّى «المياه الأنثوية» (ماييم نقفين).
4
ـ زعير أنبين (عبارة أرامية وتعني حرفياً: «ذو الوجه القصير»، أي «الذي لا يطيق صبراً»، أو «نافد الصبر»). وهو عكس «أريخ أنبين» ويقابل التجليات الستة التي ترد بعد الثلاثة الأولى من الجبوراه حتى اليسود.
5
ـ نقيفاه دي زعير (عبارة أرامية وتعني حرفياً: «أنثى زعير» أي «أنثى نافد الصبر»). وهي تقابل التجلي العاشر أو الشخيناه.
وتتخذ الذات الإلهية من خلال هذه القوى الخمس شكلاً محدداً، وتؤدي وظيفة محددة. والتجلي الأساسي للإين سوف يحدث من خلال زعير أنبين الذي وُلد من خلال اتحاد الأب والأم، ثم يكبر ليتزوج من الشخيناه ليُولِّد اتحاداً ووئاماً بين العدل والرحمة في الذات الإلهية. وتُلاحَظ مرة أخرى أصداء العقيدة المسيحية.
وتمثل هذه القوى في الحقيقة العملية التي يلد الإله بها نفسه. وحسب رؤية لوريا، كانت عملية جمع الشرارات (أي ولادة الإله واكتماله) على وشك الاكتمال حين خلق الإله آدم (أبا البشر) ليساعده في الجهد المبذول لاستعادة النظام والكمال ولهزيمة القوى الشريرة الشيطانية. وكان من المفترض أن يقوم آدم بالخطوات الأخيرة، ولكن خطيئته ومعصيته للإله أوقفت العملية، ونجم عن ذلك انتشار فوضى في الأرض تُماثل الفوضى الناجمة عن تَهشُّم الأوعية في الأعالي. فآدم، حينما خلقه الإله، كان يحوي كل أرواح البشر التي كانت توجد في حالة التصاق بالإله، وبسقوطه انفصلت الأرواح عن جذورها وتبعثرت ودخلت الأجسام المادية، وجاء الموت والشر والعالم وانحرف كل شيء عن موضعه، وأصبحت كل المخلوقات في حالة شتات دائم (جالوت)، وهي حالة مستمرة تنسحب على الكون كله وعلى الخالق نفسه الذي تبعثرت شراراته وتناثرت مرة أخرى. وقد سقطت الشخيناه ضمن ما سقط من شرارات. وما دامت الشرارات الإلهية لم تُجمَع، فإن الإله سيظل مجزأ غير مكتمل وغير متوحِّد مع نفسه.
وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن إصلاح هذا الخلل ورأب هذا الصدع، لابد أن نؤكد فكرة التقابل القبَّالية، وهي تقابل كل الأشياء واللحظات نتيجة توحُّدها النهائي. فالعالم العلوي يشبه العالم السفلي، والإله يشبه مخلوقاته، وعملية الخلق والتبعثر هي مقلوب عملية الخلاص، وطريق النهاية هو طريق البداية. ويقابل عملية الفيض الإلهي عمليات كونية مماثلة تغمر أربعة عوالم مختلفة. والنفس البشرية تشبه الذات الإلهية، ومستوياتها تشبه التجليات المختلفة، ولحظة التشتت الإلهية تشبه لحظة التشتت الفردية، ونفي الشخيناه يشبه نفي الشعب (ويُلاحَظ أن فكرة التقابل تُسقط فكرة الزمان والتتالي والاختلاف تماماً، فهي فكرة هندسية دائرية تحوِّل الزمان إلى ما يشبه المكان والبدايات تشبه النهايات). كما أن إصلاح الخلل الكوني، وعودة كل شيء إلى مكانه، وإنهاء حالة النفي الكونية، وخلاص الإله بل لادته ووجوده من جديد، هي عملية يُطلَق عليها الإصلاح (تيقون)، وهي عملية تخليص الشرارت الإلهية المبعثرة من اللحاء أو المحارات (قليبوت). وهي عملية كونية تاريخية باطنية شاملة يشارك فيها الإنسان ولكنها تعتمد بالدرجة الأولى على جماعة يسرائيل، فاليهودي الذي يعرف التوراة ومعناها الباطني (وينفذ الأوامر والنواهي ويتلو الصلوات) بوسعه أن يسرع بعملية الإصلاح (تيقوُّن)، أي عملية ولادة الإله، كما أن بوسعه أيضاً أن يوقفها إذا هو أهمل تنفيذ الأوامر والنواهي وإقامة الصلوات. وهذا من الممكن إنجازه نظراً لتقابل العالم السفلي والعالم العلوي، والتأثير في العالم العلوي من خلال أفعال يقوم بها الإنسان (اليهودي) في العالم السفلي. لكن عملية الإصلاح تدريجية، وهي تُتوَّج بظهور الماشيَّح وبعودة جماعة يسرائيل من المنفى إلى فلسطين، ومن هناك فإنه سيحكم العالم، وستسود جماعة يسرائيل على العالمين، هذا هو الجانب التاريخي. وإذا كانت حالة النفي مرتبطة بالانكماش والحدود والفرائض والانسحاب، فإن حالة التيقون مرتبطة بالتحرر الكامل من الحدود، كما أنها مرتبطة بالترخيصية والإباحية الكاملة، وهذا هو ما كان يفعله المشحاء الدجالون، وهو الجانب النفسي أو الأخلاقي للإصلاح (تيقون). وسينتهي التيقون بأن يُجمِّع الإله ذاته ويتوحد مع نفسه بعد تجميع الشرارات المبعثرة كما أنه سوف يتوحد مع شعبه (وسوف نكتشف أن الشعب اليهودي هو في واقع الأمر الشرارات الإلهية المشتتة). ومعنى هذا أن اليهود هم جزء من الإله، فهم الإله أو على الأقل أحد تجلياته. وهم إلى جانب ذلك الأداة التي تسترد بها الذات الإلهية وحدتها، فهم بذلك الأداة والغاية. وهم أيضاً سبب النفي (بذنوبهم)، وهم وسيلة العودة (بصلاحهم وتقواهم)، فاليهودي هو مركز الكون وسيده. وهكذا نُلاحظ دائرية النسق القبَّالي الحلولي المغلق.
ويُلاحَظ هنا كيف ارتبط التأمل في المعنى الباطني للتوراة، وكذلك تلاوة الصلوات وأداء الفرائض (وكلها أمور فردية ذاتية باطنية)، بحدث كوني مثل ولادة الإله، وكيف تتوحد ذاته من خلال حدث تاريخي هو ظهور الماشيَّح وعودة جماعة يسرائيل. وقد انعكس كل هذا مرة أخرى على عالم الفرد والباطن، بالترخيصية وإبطال الحدود والشرائع في العصر المشيحاني، فيتداخل الكون والإله والإنسان والزمان وكل شيء.
ومما يجدر ذكره أن تجربة يهود إسبانيا (طردهم منها) تشكل الصور المجازية الأساسية في القبَّالاه اللوريانية، فالنفي والتبعثر والتشتت كانت حقائق أساسية في حياتهم، وكان الاهتمام بالباطن دون الظاهر سمة أساسية لتجربة المارانو. وقد تبدَّى فقدانهم السلطة، مع رغبتهم الحادة فيها، في فكرة مركزية اليهود في الكون واعتماد الإله عليهـم، وتوقعهـم وصول الماشيَّح الذي سيجعلهم أسياد الأرض.
الانكماش )تسيم تسوم) Tsimtsum
لفظة «الانكماش» هي الترجمة العربية لكلمة «تسيم تسوم»، وهي كلمة وردت في المدراش لتشير إلى عملية انكماش الخالق حتى يدخل قدس الأقداس في الهيكل، وهذا هو أصلها الحلولي. ولكن إسحق لوريا استخدم الكلمة بطريقة مغايرة أو بالأحرى عمَّق مدلولها الحلولي. فالانكماش عنده هو العملية التي من خلالها ينكمش الخالق إلى نقطة داخل نفسه (الوسط) وهو انكماش يَنتُج من تركُّز (وهذا بخلاف الانكماش في المدراش حيث ينكمش الخالق ليدخل في مكان آخر غير ذاته) ثم تَصدُر عنه التجليات النورانية العشرة بعد ذلك. ومن منظور لوريا، كان الخالق يملأ الوجود باعتبار أن الذات الإلهية لا نهائية ولا تقبل التجزئة، ولا يوجد مكان لا يملؤه الحضور الإلهي. وهذه الذات لا تسمح بوجود شيء آخر، ولتتم عملية الخلق كان لابد أن تنكمش هذه الذات. ولكن هناك رأياً آخر يذهب إلى أن الانكماش هو محاولة، من جانب الخالق، لا لخلق فراغ وحسب وإنما لتطهير ذاته التي كانت تضم عناصر غير إلهية. ومن ثم، فإن الذات الإلهية لم تكن قط لا طاهرة ولا متوحدة، كما أن عملية توحد الذات الإلهية وتخليصها مما فيها من أدران إن هي إلا عملية تاريخية تُستكمَل في نهاية التاريخ. والواقع أن هذه فكرة حلولية متطرفة يعقبها حادث تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم)، وأخيراً الإصلاح (تيقون).
ويمكن تفسير بعض مصطلحات دريدا ما بعد الحداثية في ضوء فكرة تسيم تسوم، فالانكماش والاختفاء هو الغياب الكامل (الذي يعقب الحضور الكامل أو حالة البليروما في المنظومة الغنوصية) وصدور التجليات النورانية هو بداية الحضور.
تهشم الأوعية (شفيرات هَكليم)Chevrat Hakelim
«تَهشُّم الأوعية» هي ترجمة عبارة «شفيرات هَكِّليم» العبرية (من فعل «شافار» بمعنى «حطَّم»)، وتَهشُّم الأوعية مفهوم أساسي في القبَّالاه اللوريانية. وتقع حادثة تهشُّم الأوعية أثناء عملية الخلق، حينما تخرج من عيون الإنسان الأصلي أشعة النور الإلهي التي تأخذ شكل شرارات كان من المفترض أن تُجمَع في أوعية (كليم). ولكن الأوعية كانت أضعف من أن تتحمل هذا النور، فتهشَّمت وتبعثرت. والحادثة رمز شتات الشعب اليهودي، وهي فكرة حلولية مغالية تربط بين الوجود الإلهي والشعب. وتدور القبَّالاه اللوريانية حول ثلاث أفكار: الانكماش (تسيم تسوم)، وتهشُّم الأوعية، وأخيراً الإصلاح (تيقون). وهو تكوين ثلاثي يشبه تكوين: الخطيئة ـ النفي ـ الإصلاح والعودة.
الشرارات الإلهية )نيتسوتسوت) Nizozot
«الشرارات الإلهية» هي الترجمة العربية للكلمة العبرية «نتسوتسوت». والمصطلح تعبير قبَّالي يشير إلى الشرارات الإلهية التي تُحبَس في المادة بعد حادثة تهشُّم الأوعية حسب القبَّالاه اللوريانية.
إصلاح الخلل الكوني (تيِّقون) Tikkun
«إصلاح الخلل الكوني» هي الترجمة العربية لكلمة «تيقون»، وهي كلمة عبرية معناها «إصلاح». وتتحدد عملية الإصلاح بعد تخليص الشرارات الإلهية المبعثرة بعد انكماش الإله (تسيم تسوم) وبعد حادث تهشُّم الأوعية. والهدف من عملية الإصلاح أن يصل الإله إلى وحدته ويعم الخلاص العالم، وهي عملية كونية تاريخية شاملة يشارك فيها الجنس البشري بأسره، ولكنها تعتمد بالدرجة الأولى على جماعة يسرائيل. ويضمر المصطلح فكرة أن الذات الإلهية لا تشكل وحدة كاملة لا في الماضي ولا في الحاضر، وأنها ستصل إلى هذه الوحدة في المستقبل من خلال جهد الإنسان وهذه فكرة حلولية متطرفة.
موسـى كـوردوفيرو (1522-1570) Moses Cordovero
عالم قبَّالي من أصل إسباني. تتلمذ على يد يوسف كارو، ويُعَدُّ حلقة الوصل بين قبَّالاة الزوهار (التأملية) والقبَّالاه اللوريانية (المشيحانية) إذ كان لوريا تلميذاً لكوردوفيرو. أهم أعماله برديس ريموُّنيم (حديقة الرمّان)، وهو عرض واف وواضح لتعاليم القبَّالاه يتناول فيه العلاقة بين اللامحدود والمحدود، والتجليات النورانية العشرة، وعلاقة الإله بالكون. وقد كتب موسى كوردوفيرو ثلاثين كتاباً آخر، من بينها تعليق على الزوهار، أحرز ذيوعاً بين أعضاء الجماعات. وهو يُعَدُّ آخر ممثل لقبَّالاة الزوهار التأملية.
ولم يبالغ كوردوفيرو في تأكيد أهمية الرموز والأساطير القبَّالية، وخصوصاً العناصر الجنسية وأسطورة قوة الشر (سترا أحرا). وتَوصَّل إلى أن الذات الإلهية خالية تماماً من الشر، وأن جذور الشر توجد في الكون، في اختيارات الإنسان الأخلاقية.
ويبدو أن إسبينوزا قد استقى رؤيته الحلولية للإله من كتابات كوردوفيرو، فقد كتب لصديقه أولندبرج أنه استقى أفكاره من فيلسوف يهودي قديم (وكان يعني كوردوفيرو). ويمكن هنا أن نرى أن الحلولية اليهودية تتسلسل من التلمود إلى القبَّالاه، ومن القبَّالاه تتفرع إلى لوريا وشبتاي تسفي، وإلى إسبينوزا والعلمانية.
إسحق لوريا (1534-1572) Isaac Luria
ويُعرف لوريا أيضاً باسم «هاآري هاقدوش» أي «الأسد المقدَّس». ويشار إليه أيضاً باسم «الإشكنازي»، واختصار اسمه هو «آري». وُلد إسحق لوريا في القدس لأب إشكنازي يعمل بالتجارة وأم سفاردية. درس في مصر التلمود واشتغل بالأعمال التجارية، لكن الدراسات القبَّالية استغرقته تماماً. ويُقال إنه اعتكف في جزيرة الروضة في المنيل لمدة سبع سنوات حيث تأمل في الزوهار ودرس أعمال كوردوفيرو وعاش حياة الرهبان. وفي عام 1569، استقر لوريا، هو وأسرته في صفد حيث تجمعت حوله مجموعة من الطلبة والحواريين والمريدين، ومات في هذه المدينة بعد عامين. ولم يكن لوريا مفكراً منهجياً، وإنما كان متصوفاً أضاف مجموعة جديدة كاملة من الصور والرموز إلى التراث القبَّالي، وذلك من خلال تفسيراته لكتاب الزوهار التي أعلن أنها كشف أتاه به إلياهو. ولم يبق مما كتب لوريا سوى بعض مؤلفات غير مهمة لا تتضمن أفكاره الجديدة، لأنه نقل القبَّالاه اللوريانية لطلبته شفهياً، فقاموا بتدوينها ثم تداولها الناس. وبرغم وجود اختلافات كثيرة بين الكتابات التي دوَّنها تلاميذه، فإن الموضوع الأساسي يظل واحداً وهو تأكيد فكرة الخلاص والعودة، الأمر الذي يعكس النزعة المشيحانية التي بدأت في صفد وغيرها من المدن في القرن السادس عشر.
وقـبل أن يبدأ في نشـر تعاليمه الصـوفية، كان لوريا يقرض الشعر. ويضع بعض القبَّاليين أقواله في مرتبة أعلى من الشولحان عاروخ (كتاب اليهودية الأرثوذكسية الأساسي). ومن أهم تلاميذ لوريا: يوسف بن طابول، وإسرائيل ساروج، وحاييم فيتال، أولئك الذين أشاعوا آراء أستاذهم.
حـاييم فـيتال (1543-1620) Hayyim Vital
يهودي من أصل إيطالي، وأحد أتباع إسحق لوريا في صفد في آخر سني حياته (1570 ـ 1572). وبعد موت لوريا، أعلن فيتال أنه هو وحده المحتفظ بتعاليمه. وقد كان فيتال يتفاخر أمام تلاميذه بأن روحه هي روح الماشيَّح بن يوسف، وأنها معصومة من خطيئة آدم. وقد نُشرت مذكراته عن أسرار القبَّالاه اللوريانية، الأمر الذي أدَّى إلى ذيوعها، ولولاه لما أحرزت القبَّالاه اللوريانية هذا الانتشار، ذلك أن لوريا نفسه لم يترك أية نصوص مكتوبة إذ كانت الدروس التي يلقيها شفهية.
يوسـف بـن طـبول (1545- بداية القرن 17) Joseph Ibn Tabul
قبَّالي، من أهم تلاميذ إسحق لوريا. جاء من المغرب (ولذا كان يُقال له يوسف المغربي)، وانضم إلى حلقة لوريا في صفد (عام 1570) حيث مكث بعد موت معلمه. ونشأت بينه وبين حاييم فيتال بعض المشـاحنات، فذهـب إلى مصر واسـتقر فيها بضـع سنوات في شيخوخته. ويُعَدُّ شرحه لأفكار لوريا من أهم مصادر القبَّالاه اللوريانية.
إسرائيل سروج (؟ -1610) Israel Sarug
قبَّالي مصري، وُلد لأسرة حاخامية قبَّالية. تعرَّف إلى إسحق لوريا أثناء وجوده في مصر، ودرس تعاليمه. واطلع سروج على كتابات بعض أتباع إسحق لوريا (حاييم فيتال ويوسف بن طابول). وفي إيطاليا، نشر سروج تعاليم القبَّالاه اللوريانية بين عامي 1594 و1600، ومات عام 1610.
يعقـوب أبو حصـيرة (1807-1880) Jacob Abu-Hasira
هو يعقوب (الثاني) ابن مسعود. من علماء القبَّالاه، وله عدة مؤلفات عن التوراة والقبَّالاه نُشرت كلها في القدس. سافر من المغرب إلى فلسطين، وفي الطريق، نزل دمنهور حيث عمل إسكافياً، وبدأت علاقته تتوطد مع اليهود المقيمين فيها وجمعته صداقة حميمة بأحد التجار من أعضاء الجماعة اليهودية. وبعد وفاته، صرح صديقه بأن ابن مسعود توقَّع موته قبل أن يموت بأيام، وهو ما أحاط موته بهالة أسطورية. ويُقال أيضاً إن أحد أصدقائه أراد نقل جثمانه إلى الإسكندرية، وأثناء نقل الجثة هطلت الأمطار بشدة، ففُسِّر هذا بأنه تعبير عن رغبته في أن يظل مدفوناً بقرية ديمتوه القريبة من دمنهور. ويُقال إنه سُمِّي «أبا حصيرة» لأنه أثناء سفره بحراً إلى سوريا تحطمت السفينة التي كانت تقله وهوت إلى القاع ومات كل من عليها إلا يعقوب الذي استطاع أن يطفو فوق حصيرة على سطح الماء حتى وصل إلى سوريا. ومن الواضح أن هذا تفسير شعبي أسطوري لأن اسم الأسرة يعود إلى القرن السادس عشر الميلادي. وهو من كلمة «حصير» العبرية وهي من كلمة «حضرة» أو بلاط الملك. و«حصيرة» على هذا تدل على أنه كان من عائلة مُقرَّبة من السلطان بالمغرب.

وقد بنى اليهود له ضريحاً في قرية ديمتوه وكانوا يذهبون إليه للتبرك به، واتخذوا من مقبرته ما يشبه حائطاً جديداً للمبكى حيث يُقام الاحتفال بمولده كل عام. وبعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، سمحت الحكومة المصرية للإسرائيليين بزيارة المقبرة، ويأتي لها مئات القاصدين من أنحاء العالم، وبالذات إسرائيل.
وقد هاجرت أسرة أبى حصيرة من المغرب إلى إسرائيل، ومن بين أفرادها كبير حاخامات الرملة وأحد الوزراء وهو أهارون أبو حصيرة مؤسس حزب تامي الذي يعبِّر عن مصالح اليهود المغاربة.
أدولـف جيلـينك (1820-1893)Adolph Jellinek
واعظ وعالم يهودي عاش في فيينا. وُلد بالقرب من مدينة برودي، وتعلم تعليماً دينياً تقليدياً. وقد تشبَّع بالحلولية اليهودية، وبدأ يقبل علمنة اليهودية إلى أن تحوَّل لليهودية الإصلاحية، وعُيِّن واعظاً في معبد إصلاحي. وكما هو الحال في المنظومات الحلولية، تتداخل الحدود وتتآكل وتتساوى كل الأمور والعقائد. وقد أسَّس، هو وبعض الوعاظ المسيحيين، كنيسة عالمية تقبل عضوية اليهود والمسيحيين. وقد كان جيلينك عضواً قيادياً في مجلس رابطة الدفاع عن المواطنين الألمان في البلاد السلافية، أي أنه كان يدافع عن فكرة الشعب العضوي الذي لا يتغيَّر انتماؤه بتغير المكان، وهي فكرة حلولية أصبحت فكرة محورية في كلٍّ من النازية والصهيونية بعد ذلك. وفي عام 1857، عُيِّن واعظاً في أحد معابد فيينا.
وفي عام 1862، أسس جيلينك أكاديمية بيت هامدراش حيث كان هو ومفكرون يهود آخرون يلقون المحاضرات. وكان جيلينك يُعَدُّ من أكثر الوعاظ صيتاً في عصره، وقد نشر حوالي مائتي موعظة نُشرت ترجمات لها. وتتسم هذه المواعظ بأنها كانت تتناول قضايا معاصرة من خلال مناهج التفسير التلمودية الوعظية القصصية والمدراشية.
وكان جيلينك شديد الاهتمام بالقبَّالاه، فترجم دراسة عنها إلى الألمانية، وكتب عدة دراسات من أهمها الفلسفة والقبَّالاه ، كما حرَّر أعمـال إبراهيم أبى العـافية حيث بيَّن أن دي ليون هو مؤلف الزوهار. وحرَّر جيلينك كذلك معجماً بالمصطلحات الأجنبية في التلمود والمدراش والزوهار، وأعمال ابن فاقودة. وقد نشر جيلينك تسعة وتسعين موعظة (مدراش) قصيرة في ستة أجزاء تُعَدُّ في غاية الأهمية لدراسة القبَّالاه، وله دراسات أخرى تاريخية. وكان جيلينك أحد المسئولين عن مشاريـع البارون دي هـيرش التوطـينية، وقد تنـصَّر ابن جـيلينك بعد موته.
ويذكر الأستاذ الدكتور صبري جرجس في مؤلفه المهم التراث اليهودي الصهيوني والفكر الفرويدي أن عظات جيلينك هي الرابطة بين أبى العافية وفرويد. ويطرح الدكتور جرجس السؤال التالي: إذا ما نظرنا إلى التشابه الكبير بين طريقة تفكير أبى العافية ومنهجه في التفسير من ناحية، ومنهج الترابط ومفاهيم اللاشعور والتوحد والاستبصار عند فرويد من ناحية أخرى، فهل من المحتم أن يكون فرويد قد اطلع على التراث القبَّالي كما وضعه أبى العافية نصاً وتفصيلاً ونقل عنه؟ والجواب المرجح الذي يطرحه الدكتور جرجس أنه "برغم تضلع فرويد في اليهودية وإلمامه إلماماً شاملاً وعميقاً بالتوراة، ورغم تعمقه في دراسة ما ظهر من مبادئ اليهودية وما خفي، فليس من الحتمي أن يكون فرويد قد اطلع على التراث القبَّالي تفصيلاً لينقل عنه أو ليتيسر له إعادة صياغة الكثير من مفاهيم ذلك التراث بلغة العصر وأسلوبه، حسبه أنه عاش أكثر من نصف حياته في القرن التاسع عشر حين قام فريق من علماء اليهود الأوربيين (ومن بينهم أدولف جيلينك) بدراسة طبيعة القبَّالاه بالمنهج العلمي الغربي الحديث، وحسبه أنه كان يعيش في فيينا حيث كان جيلينك يعيش، وحسبه أن تلك العظات التي كان جيلينك يلقيها كل أسبوع كانت تظل حديث الأسبوع كله بين سكان المدينة من اليهود، وحسبه أن هذه العظات قد امتدت سبعاً وثلاثين سنة (1856 ـ 1893)، وهي السنوات السبع والثلاثون الأولى من حياة فرويد. أجل، حسب فرويد أن تكون له كل هذه الارتباطات اليهودية الأصيلة والمتشعبة والعميقة لتظل صلته المباشرة أو غير المباشرة بالتراث اليهودي قائمة وفعالة، وحسبه أنه كان يعيش في المناخ الفكري والوجداني والروحي للبيئة القبَّالية التي سادت حياة اليهود في جاليشيا وانحدر منها هو وغالبية يهود فيينا، حسبه كل ذلك لكي يتوحد بتفكيره مع الأصول التي قام عليها التفكير القبَّالي في هذا العصر أو ذاك من تاريخه الطويل، ولكي يستمد الكثير من مفاهيمه مضامينها من الأيديولوجيا القبَّالية، حتى وإن اختلفت الصياغة وتباينت أحياناً وجوه التطبيق".
( يتبع )
من اسهامات جـــــى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما رأيك فى مدونة هاجى ؟