الاثنين، 29 نوفمبر 2010

الكابالا - القابالاه ( 2 )

الموضوعـات الأساسـية الكامنـة في القبَّالاه وبنيـة الأفكـار
تطورت القبَّالاه وتراثها، عبر مراحل تاريخية عديدة، من قبَّالاة الزوهار إلى القبَّالاه اللوريانية، وانقسمت إلى أشكال مختلفة من قبَّالاه نظرية أو تأملية إلى قبَّالاه عملية. وحفلت هذه الاتجاهات والحركات على اختلافها بمفكرين عديدين، لكلٍّ إسهاماته وتفسيراته. وهذا الأمر ليس غريباً على حركة ذات طابع حلولي غنوصي إذ تلفح المفسر لفحة من الحلول الإلهي فيصبح مقدَّساً وتكتسب تفسيراته قدراً من القداسة. ومع ذلك، تظل هناك موضوعات أساسية وبنية عامة كامنة (نموذج كامن) تعبِّر عن نفسها من خلال الكتابات القبَّالية. والواقع أن وجود مثل هذه الموضوعات وتلك البنية هو ما يبرر لنا استخدام كلمة «قبَّالاه» للإشارة إلى هذه الكتابات كلها.

وتوجد في القبَّالاه رؤية فيضية للخلق، ورؤية للشر وللإنسان، ولعلاقة الإله بالإنسان، وللشعب اليهودي ووضعه في العالم. كما أن التراث القبَّالي يستخدم مجموعة من الصور المجازية ذات دلالات فلسفية ونفسية وكونية عميقة. وسنحاول في هذا المدخل أن نبين تلك الموضوعات والصور المجازية التي تشكل نسيج البنية العامة. ويمكننا، منذ البداية، أن نقول إن القبَّالاه تَصدُر عن رؤية واحدية كونية تستند إلى ركيزة نهائية غير متجاوزة للنسق وإنما كامنة فيه. والبنية العامة للفكر القبَّالي بنية حلولية عضوية دائرية مغلقة حتى أن كل ما يظهر فيها من تعدُّد وتنوُّع أمر ظاهري، فداخل البنية الحلولية المغلقة تُردُّ كل الظواهر إلى مستوى واحد وتُلغى كل الثنائيات وتصبح كل الأشياء متقابلة ومتساوية بعضها مع البعض الآخر، ومع المطلق الكامن وراء كل شيء والذي يحل فيه ويتجسد من خلاله. فإذا كانت هذه البنية مُكوَّنة من (أ) و(ب) و(جـ) و (د)، على سبيل المثال، فإننا سنكتشف أن (أ) هي، في نهاية الأمر، (ب)، وأن (ب) هي مقابل (جـ) ومساوية لها، تماماً كما أن (جـ) و(د) متصلان ومتقابلان ومتساويان. ومن ثم، فإننا نكتشف أن (أ) هي (ب) و(ب) هي (جـ) و(جـ) هي (د)، وهكذا، رغم كل التغيرات والتحولات. ولكن يُلاحَظ أن العكس يمكن أن يحدث أيضاً، فبدلاً من اختفاء الثنائيات وتَوحُّدها قد تتصلب وتتحول إلى ثنائية صلبة أي ثنوية. وهنا بدلاً من أن تكتسح دائرة القداسة الجميع نجد أنها تنغلق على نفسها تماماً ويتم تقسيم العالم على أساس قطبين متعارضين: الطاهر المقدَّس مقابل المدنَّس المباح.

ويتبدَّى النسق المغلق في الرؤية القبَّالية لخلق العالم، فهذا الخلق لم يكن من العـدم، ولم يتم دفعـة واحدة كما هو الحال في الديانات التوحيدية، وإنما عن طريق الفيض الإلهي. وقد ذكر رفائيل باتاي أن رؤية القبَّالاه للإله تطورية، أي أن الإله وُجد، أو أوجَد نفسه على مراحل داخل الزمان. وقد تم خَلْق العالم من خلال عملية صيرورة مركبة بحيث يتحـول اللاشـيء الإلهي إلى الكيـان الإلهي، ويتجه من الداخل إلى الخارج. وتبدأ هذه العملية في جذر الجذور، أي في «الإين سوف» التي يمكن أن تُترجَم إلى «اللانهائي» (أو «اللامحدود» أو «العلة الأولى» أو «الذي لا نظير له») الذي لا يستطيع العقل الإحاطة به. ولكن «الإين سوف» هو أيضاً «الآيين» (أو «اللاشيء» أو «العدم» أو «التخفي الإلهي»). ولذا، فإنه يُسمَّى «الإله الخفي» الذي لا يمكن أن يكون إلهاً بالمعنى المألوف للكلمة، كما لا يستطيع الإنسان أن يصل إليه. وقد أشارت إليه القبَّالاه بأنه «المطلق» الذي يقطن في أعماق العدم، وقد انبثق الآني (أي الأنا الإلهية) عن الآيين. ويشير القبَّاليون إلى أن الآيين والآني يضمان الحروف الساكنة نفسها وهو ما يشي بأن العدم والإله هما شيء واحد.

وقد تمت عملية التحول هذه على شكل تطوُّر من الهو إلى الأنت إلى الأنا، على النحو التالي:
الهو: الإله المتخفي المنفصل عن العالمين.
الأنت: الإله الذي يعبِّر عن كيانه والذي يدركه الناس.
الأنا: الإله المكتمل المتجلي الذي عبَّر عن كماله المطلق.

وهذه هي المرحلة التي يمكن أن يقول فيها الإله لنفسه أنا، وأنا هذه هي الشخيناه، أي جماعة يسرائيل، وهي المرحلة التي يجد فيها الإله نفسه (وهذه الأفكار لها صداها في فلسفة مارتن بوبر الذي لم يكن يعرف التلمود، بل درس الفكر الحسيدي فقط وبالتالي الفكر القبَّالي). وهكذا انبثق الإله من ذاته وظهر الآني من الآيين، أي من العدم، وظهرت هذه الخاصية العلوية السماوية التي تشكل بداية الفيض الإلهي، وكان يُقال لها «الفكر الإلهي» (محشفاه)، ثم أُطلق عليها فيما بعد اسم «الإرادة الإلهية»، الأمر الذي يبين تحوُّل القبَّالاه عن العقل والتأمل الفكري إلى الإرادة والرغبة. عند هذه النقطة، تبدأ سلسلة الفيض التي تنبثق من الإرادة الإلهية (سفيروت)، وهي القدرات الإلهية الكامنة التي تتحول إلى القداسة المتجلية، والتي تأخذ شكل إشعاعات صادرة من النور الذاتي للإله على هيئة تجليات، وهذه الإشعاعات هي التي أوجدت العالم. ولذا، فإن السفيروت هي القوى الكامنة والتجليات النورانية نفسها، وهي أيضاً مراحل التجلي والبؤر والصفات الإلهية ودرجات الوجود الإلهي. لكن هذه الأشياء تشكل، أولاً وأخيراً، الوساطة بين الكون والإله وتكون بمنزلة حلقة الوصل بينهما، ولذا فإننا نترجمها بعبارة «التجليات النورانية العشرة».

وإذا كان الإين سوف يَصعُب إدراكه، فإن التجليات النورانية العشرة (سفيروت) على خلاف ذلك تماماً، فهي في مجموعها تشكل الإله الشخصي الذي يمكن إدراكه والذي يتوجه إليه المصلون (ويمكننا أن نرى الواحدية والازدواجية والتعددية). ولتأكيد الواحدية والتعددية في وقت واحد، يُشبِّه القبَّاليون السفيروت بالألوان التي يراها الإنسان في قمم ألسنة اللهب، ويقرِّرون أن عملية الفيض هذه هي الطريقة التي خلق الإله بها ذاته ثم خلق بها العالم.

ودرجات السفيروت، أو التجليات النورانية العشر، هي:
1 ـ كيتر (أو كيثر) عليون، أي التاج الأعلى، وهو أيضاً الإرادة المقدَّسة أو الرغبة المقدَّسة، ويشار إليه أحياناً بالتاج وحسب، ويساوي بعض القبَّاليين بين التاج والإله الخفي (ديوس أبسكوندتيوس deus absconditus) فهو الإين سوف وهو أحياناً الآيين.

2
ـ حوخمه، أي الحكمة، أول التجليات المتعيِّنة، وهي الفكر الإلهي الكوني الذي يسبق الخلق، والذي لا يقبل التقسيم، وهي تحتوي على النمـاذج المُـثلى التي وضعها الخـالق لكل العوالم، وهي العلة الذكرية الأولى.

3
ـ بيناه، أي الفهم، وهو عكس الحكمة، فهو العقل الذي يميز بين الأشياء، ولذا فهو المرحلة التي يتحقق فيها النموذج الخفي ويأخذ شكلاً محدداً وهي العلة الأنثوية الأولى.

4
ـ جيدولاه، أي العظمة، وأحياناً يشار إليها بلفظ «حسيد»، وهي الحب الفائض للإله أو الرحمة.

5
ـ جبوراه، أي القوة أو السلطة، وغالباً ما يشار إليها بلفظ «دين»، أي الحكم الصارم، وهي مصدر الحكم الإلهي والشريعة.

6
ـ تفئيريت، أي الجمال أو الجلال، ويُشار إليه أيضاً بلفظ «رحاميم» أي التعاطف، وهو الوسيط بين التجلي الرابع والتجلي الخامس ليأتي بالتناسق والرحمة للعالم. ويُقال إن هذا التجلي أهم التجليات، ربما لتوسُّطه كل التجليات ولدوره في عملية الخلق.

7
ـ نيتسح، أي التحمل أو الأزلية (أو النصر).

8
ـ هود، أي الجلالة أو المجد أو العظمة.

9
ـ يسود عولام، أي أساس العالم، ويُشار إليه أحياناً بلفظ «يسود» وحسب، أي الأساس، وكذلك على «التساديك»، أي الصديق، أو الرجل التقي، وهو الذي ترتكز عليه كل التجليات السابقة.

10
ـ ملكوت، أي المملكة، أو عتاراه أي الجوهرة.

وتفترض فكرة الفيض ثلاثة مفاهيم متناقضة: الواحدية والتعددية (أو الثنوية) والتقابلية. فالفيض يتم على مراحل تنتهي بجماعة يسرائيل ثم العالم. ولكل مرحلة من مراحل الفيض استقلالها وحيويتها ووظيفتها. ولكن فكرة الفيض تفترض أيضاً العكس، أي وجود وحدة تنتظم كل المخلوقات، وضمنها الإنسان، بل تنتظم الإله نفسه، بحيث يصبح الإله ومخلوقاته (أي الإله من جهة والإنسان والطبيعة من جهة أخرى) عناصر في وحدة متكاملة لها المصير نفسه ولا يفصلها فاصل. بل إن كل مراحل الفيض، رغم اختلافها، تصبح على مستوى من المستويات الشيء نفسه، وتحمل الصفات نفسها. ويرى القبَّاليون كذلك أن ثمة اتحاداً متوازياً، متقابلاً بين الإله وكل مخلوقاته، وأن السماء تشبه الأرض، والإله يشبه الإنسان، والتاريخ يشبه الطبيعة. وتقول إحدي أفكار التراث القبَّالي الأساسية:«كما في السماء كذلك في الأرض، كما في الداخل كذلك في الخارج». ومعنى ذلك أن أجزاء البنية متوازية ومتساوية متعادلة، فهي إذن بنية مغلقة لا ثغرات فيها.
وتظهر التقابلية في جميع الرموز المتواترة في التراث القبَّالي، والذي يصوِّر الإله وعملية الخلق والتجليات العشرة على هيئة شجرة، وعلى هيئة إنسان.

ويُشار إلى التجليات العشرة باعتبارها «آدم قدمون»، أي «الإنسان الأصلي» و«الإنسان الأزلي» الذي يُتوِّجه التاج، ويوجد الملكوت عند قدميه، وتشكل أعضاء جسمه التجليات العشرة. كما تشكل التجليات الثلاثة الأولى رأسه، والرابع والخامس ذراعاه، والسادس صدره، والسابع والثامن ساقاه، والتاسع عضوه الجنسي (عادةً المذكر)، والعاشر إما يشير إلى الصورة كلها أو يشير إلى الأنثى التي تصاحب الذكر أو يشير إلى عضو التأنيث. كما كان يُصوَّر الآدم قدمون وإلى يساره كل الصفات السلبية، مثل الصرامة والاحتمال، وإلى يمينه الصفات الإيجابية. والإنسان، من هذا المنظور، صورة مصغرة (ميكروكوزم) للعالم الأكبر (ماكروكوزم)، يكمن فيه كل من العالم السفلي المادي والعالم السامي الروحي وهو كذلك صورة مصغرة للإله.

 وتتكون الروح من ثلاث درجات يُطلَق عليها ما يلي:
1 ـ «نيفيش»، أي «الحيوية»، وهي مصدر القوة الحيوانية والحيوية، وتقابل الحياة المادية.
2
ـ «رُوَّح»، أي «الروح»، وهي مصدر السمات الأخلاقية.
3
ـ« نيشماه»، أي «النفس»، أعلى الدرجات الثلاث، وهي تلك الدرجة التي تجعل الإنسان قادراً على دراسة التوراة وإدراك كنه الإله. ويرى القبَّاليون أنها شرارة من بيناه (الفهم)، وأنها غير قادرة على الخطيئة. وهذه الدرجة الروحية لا يصل إليها سوى التساديك (الصديق).

وقد حاول القبَّاليون إماطة اللثام عن الروح، وفك القيود التي تربطها، بحيث يمكنها أن تتصل بالتيار المقدَّس الذي يجري في الكون كله. ويرى القبَّاليون أن العذاب في الجحيم سيحل بالنيفيش وحسب، وليس بالنيشماه. ويرى بعض القبَّاليين أن جسم الإنسان ما هو إلا رداء للشرارة الإلهية، ويرى البعض الآخر أنه جزء من الجانب الآخر، بينما يرى فريق ثالث أن وظائفه الجنسية هي الطقوس المقدَّسة التي تصوِّر ما يدور في العالم العلوي. ويظهر التقابل في نهاية الأمر في فكرة التماثل بين الإله وروح الإنسان والكون وفي تَداخُل هذه الأشياء، وهو تَداخُل ينم عن حلولية النسق.

وقد تَعرَّض القبَّاليون لفكرة الشر، وحاولوا حلها من خلال إطارهم الحلولي الواحدي أو التعددي (الثنوي)، ثم من خلال فكرة التقابل. وكان القبَّاليون يقتربون من رؤية ثنوية للخير والشر، فالشر هو «السترا أحرا» (الجانب الآخر). بل إن بعض القبَّاليين يتحدثون عن تجليات اليسار، وهي تجليات مضادة؛ قوى مظلمة دنسة تعادي قوى القداسة والخير، وتدخل في صراع شديد معها للسيطرة على العالم. ومن هنا كان اهتمام القبَّاليين بالجن سمائيل (الشيطان) وزوجته ليليت في القبَّالاه.

وتوجد شجرتان في التصور القبَّالي: شجرة الحياة المقدَّسة التي هي خير خالص لا يختلط بها أي شر أو دنس أو موت، وهي الشجرة التي كانت تحكم العالم قبل السقوط. وهناك أيضاً شجرة المعرفة (معرفة الخير والشر، والطهارة والدنَّس، والفضيلة والرذيلة) وهي الشجرة التي تحكم هذا العالم، ولذا فإن الموت مرتبط بها. وترتبط بهاتين الشجرتين رؤية ما يُسمَّى بالتوراتين: توراة الفيض وتوراة الخلق. فهناك توراة واحدة (مكتوبة) لها معنى ظاهري مرتبط بهذا العالم ويشمل الأوامر والنواهي والوصايا والشرائع والتشريعات، وهذه الأشياء مرتبطة بشجرة المعرفة. أما التوراة الثانية، فهي توراة نورانية، توراة العالم الخالي من الدنَّس، ولذا فهي لا تحوي أي أوامر أو نواه بل تدعو إلى الحرية الكاملة وإلى خَرْق الشرائع، وهي مرتبطة بشجرة الحياة المقدَّسة، وهي توراة غير مكتوبة لا تدركها سوى عيون الماشيَّح والواصلون والعارفون بأسرار القبَّالاه. ويُلاحَظ أن الرؤية هنا رؤية ثنوية حادة تشبه من بعض الوجوه كتب الرؤى (أبوكاليبس).

ولكن القبَّاليين حاولوا أيضاً الاحتفاظ بإطار من الواحدية يُفسِّر الشر باعتباره القشرة الخارجية لشجرة التجليات النورانية والمحارة الخارجية التي تلف أشكال الوجود الدنيوي أو النمو المتطرف للحكم الصارم (دين) حينما ينفصل عن تجلِّي الحب الخالص. فالحكم الصارم داخل الذات الإلهية هو مجرد قوة محايدة، ولكنه حينما ينفصل عنها يصبح قوة مدمِّرة. وفي إطار الواحدية، تذهب القبَّالاه إلى أن التجليات المظلمة والقوى الشيطانية نفسها نبعت من الإله ولكنها انفصلت عنه، وهي بانفصالها أصبحت قوى شريرة، أي أن الشر هو تحطيم مؤقت وعارض للواحدية الكونية والمطلقة (وهو، من هذا المنظور، ليس له وجود حقيقي، وهو فقط انفصال شـجرة الحيـاة عن شـجرة المعرفة). ومن هذا المنظور، يصبح الشر مجرد نتيجة جانبية وليس الجانب الآخر للقداسة الإلهية نفسها (مثل النفاية التي تبقى بعد تنقية الذهب أو الثُّفْل الذي يبقى بعد عصر الخمرة الجيدة). ولما كان الشر تفرعاً عن التجليات الإلهية، فقد كان القبَّاليون يعتقدون أن ثمة شرارة مقدَّسة حتى في الجانب الآخر. ويُلاحَظ أن الرؤيتين الثنوية والواحدية للشر (باعتبار أن الأولى ترى أن الشر له وجود مستقل ومساو للخير، والثانية لا ترى أي وجود حقيقي له) متصلتان تماماً ومتشابهتان، فكلتاهما تخلع حتمية على الشر، بل نوعاً من القداسة! وقد أدَّى هذا في نهاية الأمر إلى شيوع الفكرة القائلة بالوصول إلى الخير عن طريق الرذيلة، في أوساط الشبتانيين والحسيديين، وهذا تعبير عن البنية المغلقة على المستوى الأخلاقي.

وإلى جانب الإطار الثنوي والواحدي، حاول القبَّاليون حل مشكلة الشر انطلاقاً من صورة التقابل المجازية: فالعالم السفلي يتأثر بالعالم العلوي وبالتجليات المختلفة، فيأتي السلام والخير بتأثير الحسيد أو سفيروت الرحمة، والحرب والجوع بتأثير سفيروت (جبوراه). ولكن العالم العلوي يتأثر بدوره بالعالم السفلي، فهما متقابلان. وثمة تفسير قبَّالي لقصة الشجرة التي أكل منها آدم وحواء باعتبارها الواقعة التي أدَّت إلى فصل التجليات السفلى (الملكوت) عن التجليات العليا، وإلى انفصال الإله عن الإنسان، ومن هنا تكون الخطيئة الأولى هي الانفصال الذي أدَّى إلى نفي الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الإله) مع جماعة يسرائيل، أي أن خطيئة الإنسان قد أثَّرت في مصير الإله نفسه تأثيرها في مصير الإنسان. ومن هنا عظَم جُرم الإنسان الذي أدَّى إلى تَفتُّت الإله، ومن هنا أيضاً تأتي أهمية ممارسة الشعائر الدينية التي تجد صداها في العالم العلوي وتؤثر فيه. ولذا، يحاول أتقياء اليهود، من خلال صلواتهم وأفعالهم، أن يصلحوا الكون وأن يعيدوا الشخيناه من المنفى، وهذه هي الفكرة التي أصبحت أساسية في القبَّالاه اللوريانية ويُطلَق عليها عملية التيقون (الإصلاح)، أي إصلاح الانفصال ورأب الصدع الذي حدث بين الإله والإنسان نتيجة خطيئة قطع الشجرة. وهذه الفكرة هي أدق تعبير عن الحلولية القبَّالية. وقد وردت في الأجاداه فكرة أن الإله يعتمد على الإنسان، بل إن الإنسان شريك الإله في عملية الخلق (ولهذا، فبوسعه التحكم في الأشياء الصالحة، ومن هنا ارتباط القبَّالاه بالسحر). وفي القبَّالاه، تصبح مهمة الإنسان استعادة تناسق حياة الإله الداخلية التي تعتمد على إرادة الإنسان (ومرة أخرى، يبدو كلٌ من الإله والإنسان شريكاً في عملية الخلاص). والواقع أن هناك تقابلاً بين الإله والإنسان وامتزاجاً كاملاً بينهما في الرؤية القبَّالية.

ولعملية السقوط والانفصال أصداء مختلفة، فهي سقوط آدم وهي أيضاً سقوط أو هدم الهيكل، بل هي سقوط الكون كله. لكن جماعة يسرائيل، كما تقدَّم، هي جزء من الإله تُوجَد داخله، فهي التجلي أو السفيروت العاشر الذي هو الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الإله) التي يتم نفىها مع الشعب اليهودي، ولذا، فإن نفي اليهود خارج أرض الميعاد له دلالات خاصة تفوق حالة النفي الكونية العامة، فنفيهم يعني تفتُّت الإله وتبعثره بل نفيه. ولهذا، فإن اليهود لهم مكانة مركزية في عملية الخلاص، إذ أن عليهم أن يحيوا حياة القداسة، والتركيز الصوفي وتنفيذ التعاليم الإلهية والتمسك بالشريعة. وبذلك يأتي الخلاص لليهود وللعالم بأسره، بل للإله نفسه، إذ أن الشخيناه، وهي وجه من أوجه الإله، لن تعود إلا بعودتهم، ولن يتم اكتمال وحدة الإله إلا بهذه العودة. وبذا، فإن وجود اليهود، وكذا أفعالهم، تُشكل أساساً لاتزان الكون ولعملية الخلاص الإلهية والبشرية. بل إن رحمة الإله لا تفيض إلا بسبب أفعالهم الخيرة، فتتحول حياة اليهود العادية إلى عملية مقدَّسة يستند إليها خلاص الكون نفسه.

ويظهر التقابل، بل التطابق الكامل، بين الإله والإنسان وبين العالمين العلوي والسفلي، في استخدام القبَّاليين صورة مجازية جنسية عند الحديث عن الإله أو عن عملية الخلق. فالابن ـ وهو رمز ذكري واضح ـ (السفيروت السادس) يفيض بالرحمة الإلهية التي تنزل على التجلي العاشر الذي هو الشخيناه أو التعبير الأنثوي عن الإله، وهي أيضاً جماعة يسرائيل التي يُشار إليها بتعبير «بنت صهيون» (بات تسيون). ومن خلال التفاعل بين عناصر الذكورة وعناصر الأنوثة، تفيض الرحمة على العالمين، وتتحد الذات الإلهية، وبذلك يصبح سر وحدة الإله والكون هو نفسه الوحدة الكونية. وتُستخدَم صورة الزواج المجازية للحديث عن علاقة الإله بالشعب (ونشيد الأنشاد هو نشيد زفاف الشعب إلى الإله!). والواقع أننا نتحدث عن هذه الأفكار بوصفها صوراً مجازية، ولكن قد يكون من الأدق الحديث عنها باعتبارها مقولات إدراكية أو حتى وجوداً أنطولوجياً أكثر منها صوراً مجازية بالمعنى المألوف، إذ أن بعض القبَّاليين كانوا يدركون الإله على هذه الهيئة. والصورة المجازية الجنسية القذفية الفيضية تعبير عن البنية المغلقة.

وقد ورد في إحدى الدراسات أن الصورة المجازية الجنسية تُستخدَم لمعرفة كنه علاقات التجليات، الواحدة بالأخرى، وبالتالي فهي لا تَصدُق على علاقة الإنسان بالإله. وبناء على ذلك، يصل المؤلف إلى أن التصوف اليهودي حسب هذا الرأي يختلف عن التصوف المسيحي الذي يرمي إلى تحقيق الاتحاد بالإله، في حين تهدف التجربة الصوفية اليهودية إلى التواصل مع الإله والالتصاق به. ولكن، كما بيَّنا، تمثل الشـخيناه حلقـة وصل عضوية بين التجليـات المختلفة الإلهية والعالم السفلي، بحيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، كما أن فكرة التقابل بين الإله والإنسـان تجعل الوحـدة والحلولية الكاملة أمراً بيِّناً. وعلى كلٍّ، أثبتت التطورات اللاحقة في الحركات المشيحانية أن الصورة المجازية الجنسية كانت أساسية في تفكير القبَّاليين، وفي إدراك علاقة الإنسان بالإله.

وإذا كانت الحلولية التلمودية قد أدَّت إلى العزلة والتعالي، فإن الحلولية القبَّالية المتطرفة أدَّت إلى عزلة وتعال متطرفين، فزادت عزلة اليهود عن العالمين، ولم يَعُد الاختلاف بينهم وبين الأغيار مسألة عقيدة وإنما أصبح مسألة أصول ميتافيزيقية مختلفة، فأرواح اليهود مستمدة من الكيان المقدَّس في حين تَصدُر أرواح الأغيار عن المحارات الشيطانية والجانب الآخر. وأعضاء الشخيناه هم أعضاء الجماعة اليهودية، أما الأغيار فهم أبناء الشيطان (نتيجة اغتصاب الشيطان الابنة/الماترونت/الملكة). (يُلاحَظ أن الماترونيت هي مؤنث متاترون). والخيِّرون من الأغيار هم في الواقع أجساد أغيار لها أرواح يهودية ضلت سبيلها. وإذا كان اليهود يعيشون في الظاهر بفضل الأغيار، فإن العكس في الواقع هو الصحيح، فاليهود هم وحدهم القادرون على التأثير في قنوات الرحمة التي عن طريقها سيرسل الإله رحمته إلى العالم، وهم وحدهم الذين يقفون كوسيط بين الإله والعالم، فأعمالهم الطيبة هي التي تجعل الخير يعم الجميع، وذنوبهم هي التي تأتي بغضب الإله عليهم. ويوجد في القبَّالاه أيضاً ذلك الإحساس الذي يسري في كثير من صفحات التلمود، بأن نهاية التاريخ ستشهد عُلو جماعة يسرائيل على العالمين ودمار أعدائهم من الشعوب الأخرى.

وقد وصف الحاخامات الأرثوذكس النزعة القبَّالية بأنها تخلت عن التوحيد اليهودي، وأحلت محل الإله الواحد عشرة آلهة (التجليات النورانية العشرة). وهم محقون تماماً في هذا، فالخلق عن طريق الفيض يفترض عشرة تجليات يحمل كل منها قداسة إلهية، كما أن كلاًّ منها منفصل عن الآخر، فهي تكاد تكون عدة آلهة أو إله واحد قابل للانقسام إلى أجزاء. التجسد في حالة القبَّالاه، فهو حالة حلولية دائمة لا تنتهي وتستمر عبر التاريخ، كما أن الفكر القبَّالي يفترض الشراكة بين الإنسان والإله وينطوي على ضرب من المساواة والتعادل والتقابل بينهما.

ولكن التنوع والتعدد في السياق القبَّالي هما في واقع الأمر من قبيل الوهم، فهما مجرد مراحل وحلقات تؤدي إلى الوحدة والواحدية المطلقة النهائية، وهي وحدة تنكر الثنائية (وليس الثنوية) التي تسم الديانات التوحيـدية كافة وتتمـثل في ثنائية الجسـد والروح، والدين والدنيا. وأكثر من ذلك، فإن القبَّالاه تنكر انفصال الإله عن الكون، وتنتهي إلى وحدة مغلقة لا يتجاوز الإله فيها مخلوقاته. لكن هذه الوحدة المطلقة النهائية تنطوي على إنكار أية دلالة تاريخية وأي وجود إنساني متعَيِّن، ذلك لأن كل الظواهر المادية والروحية والمعنوية تدخل في إطار هندسي جامد وتخضع للقوانين الصوفية أو الميكانيكية أو الرياضية نفسها، أي أن التفكير القبَّالي تفكير غير جدلي ولا يرى أي تناقض حقيقي بين الأشياء، فهو يذيب حدودها تماماً، ويذيب الهويات كافة، ومنها هوية اليهود كأفراد، ولا يُبقي سوى هوية (وحقوق) جماعة يسرائيل كمركز للكون والجنس البشري والوجود الإلهي.

ولكل هذا، فإن التفكير القبَّالي يحوي داخله نقيضين: تعدُّداً من ناحية، يرى الإله أجزاء وتجليات مختلفة، ومن ناحية أخرى واحدية متطرفة لا ترى أي وجود للإله خارج مخلوقاته المادية، وهذه إحدى سمات الأنساق الدينية الحلولية المتطرفة.
الباهير
«باهير» كلمة عبرية معناها «الساطع» أو «المشرق»، وهي اسم كتاب مجهول المؤلف يُعَدُّ أقدم النصوص القبَّالية. وقد كان هذا الكتاب معروفاً في جنوب فرنسا في نهاية القرن الثاني عشر (في منطقة عُرفت بالنزعات الهرطقية)، وإن كان تاريخ تأليفه لا يزال مجهولاً، ثم انتقل إلى إسبانيا في القرن الثاني عشر أو في القرن الثالث عشر، ثم انتقل بعد ذلك إلى إيطاليا. ويحتوي الكتاب على أول محاولة لشرح النظرية القبَّالية الحلولية في الفيض الإلهي، وفكرة تناسخ الأرواح، كما يحاول الكتاب وضع أسس التفسير الصوفي لحروف الأبجدية العبرية، كما ترد في الرموز الصوفية القبَّالية في شجرة الحياة مثلاً. وقد وردت فيه كذلك فكرة التجليات النورانية العشرة (سفيروت) التي تجلت من الإله الخفي. ويعتمد كتاب الباهير على كتاب سبقه هو سفر يتسيرا (كتاب الخلق) . وبينما يميل كتاب الخلق إلى تَبنِّي المنطق الرياضي في حساب التجليات العشرة ودور كل شيء فيها وطبائع الحروف (المائية والنورانية والهوائية) نجـد أن كتاب الباهير يميـل إلى القصص الأسطوري. وقد لوحظ التشابه القوي بينه وبين كتابات بعض الجماعات الغنوصية مثل الكاثاريين (المرأة مساعد للشيطان ـ الشر نتيجة المعاشرة الجنسية بين آدم وبعض الجنيات ـ الشمال مصدر للشرور). وقد كُتب الباهير بخليط من العبرية والآرامية، وبأسلوب غامض، وبناء الكتاب غير متماسك. ويبلغ عدد كلمات الباهير اثنى عشر ألف كلمة. وظهرت أولى طبعاته في أمستردام عام 1651، وظهرت طبعة جديدة في القدس عام 1951، وترجمه إلى الألمانية جيرشوم شوليم.

التجليات النورانية العشرة (سفيروت)
«التجلِّيات النورانية العشرة» هي المقابل العربي لكلمة «سفيروت» العبرية، وهي من الكلمة العبرية «سفيراه» من الجذر العبري «سافار» المرتبط بالكلمات التالية: «سابار» (رقم) ـ «سيفر» (كتاب) ـ «سيبر» (يحكي) ـ «سابير» (لمعان) ـ «سيبار» (حدود). وكلمة «سفيروت» تعني حرفياً «الأعداد» أو «الأرقام»، ثم أصبحت الكلمة فيما بعد تشير إلى التجلِّيات الإلهية (ومن ثم فهي من أهم المفاهيم أو الصور الحلولية في القبَّالاه). وقد كانت هناك مصطلحات أخرى في بداية الأمر لوصف السفيروت أو حالة الامتلاء، فكانت تُسمَّى «الصفات» (ميدوت) أو «القوى» (كوحوت) أو «الدرجات» (معالوت) أو «الخطوات»، كما سُمِّيت «الأسس» و«الأسـماء» و«التيجـان» و«السـمات» و«القنـوات»، وسُمِّيت أخيراً «سفيروت».

والسـفيروت تجلّيـات الإشـعاعات الصادرة من النور الذاتي للإله، وهي التي أوجدت العالم، فهي جذر المخلوقات، وهي الواسطة وحلقة الوصل بين الإله والكون، فإذا كان الإله هو نقوداريشوناه (النقطة الأولى) فإن التجلّيات هي النقط (نقودوت)، وهي أداته في خلق العالم وحكمه، وهي أيضاً الأوعية التي يفيض فيها الإله، ولذا تُسمَّى أيضاً «قنوات الفيض» (سفيروت هشيفع). وهي أيضاً القوى الكامنة ومراحل التجلِّيات أو التجلِّيات نفسها، وهي نواحي الخلق وبؤره أيضاً. والتجلّيات النورانية عشرة، تركز قبَّالاة الزوهار على التأمل فيها، كما تُعنَى بتصنيفها ودراسة العلاقات بينها والهيئات التي تتخذها.
 والتجلّيات النورانية العشرة في القبَّالاه اللوريانية تقابلها الصور التي تسمَّى «البرتسوفيم» وعددها خمس. ودرجات التجلّيات النورانية العشرة هي:
1 ـ كيتر (أو كيثر) عليون، أي التاج الأعلى للإله، وهي أيضاً الإرادة المقدَّسة والعقل الفعّال (لوجوس)، ويُشار إليها أحياناً بالتاج وحسب، وهي أول مرحلة تخرج من الإين سوف أو الإله الخفي. ومع هذا، يساوي بعض القبَّاليين بين هذا التجلي وبين الإله الخفي نفسه، فهو متوحِّد تماماً مع العدم وليس بإمكان العابد أن يدركه أو يصلى له. ويخرج من هذا التجلي النوراني زوجان مختلطان جنسياً، فهو كائن خنثى.
2
ـ الحوخمه، أي الحكمة، وهو أول التجلِّيات المتعيِّنة التي انفصلت عن الإله المتخفي، وهو الفكر الإلهي الكوني (محشـفاه) الذي يسـبق الخلق، ولذا فهو يحتوي على النماذج المثلى التي وضعها الإله لجميع العوالم، ويُشار إليه بأنه الأب العلوي أو السماوي، وهو أيضاً العلة (الذكرية) الأولى. وقد تحوَّل فيما بعد من الفكر الإلهي إلى الإرادة أو الرغبة الإلهية.
3
ـ البيناه، أي الفهم أو الذكاء. وهو خلاف الحكمة، فهو العقل الذي يميِّز بين الأشياء والذات والمخلوقات. ولذا، فهو المرحلة التي يتحقق أو يولد فيها النموذج الخفي الكامن ويأخذ شكلاً محدداً. وهذا التجلي النوراني هو أيضاً الأم السماوية، وهو عملية الخلق نفسها، وهو أيضاً العلة الأنثوية الأولى، ويدخل التجليان النورانيان الثاني والثالث في علاقة جنسية خاصة إذ يتزاوجان فينجبان التجليين النورانيين السادس والعاشر، وهما أهم التجلِّيات على الإطلاق. ولكن الفيض الإلهي يستمر وتظهر التجلّيات الأخرى.

4
ـ جيدولاه، أي «العظمة». وأحياناً يشار إليه بكلمة «حسيد»، وهو حب الإله الفائض والرحمة.
5
ـ جبـوراه، أي الـقوة أو السلطة، وغالباً ما كان يشار إليه بكلمة «دين»، أي «الحكم الصارم»، وهو مصدر الحكم الإلهي والشريعة والأوامر والنواهي والوصايا، وخصوصاً النواهي.
6
ـ تفئيرت، أي الجمال، ويشار إليه أيضاً بمصطلح «رحاميم» أي «التعاطف». وهو أيضاً الشمس والابن والملك المقدَّس وعريس يسرائيل، وهو الوسـيط بين التجـليين الرابع والخامـس ليأتي بالتناسق والرحمة للعالم. وهو، كما تقدَّم، أهم التجلِّيات النورانية. ويُلاحَظ أنه يتوسط التجلِّيات، ويلعب دوراً مهماً في عملية الخلق والخلاص (وثمة أصداء واضحة هنا لفكرة ابن الإله وابن الإنسان وهي فكرة مسيحية).
7
ـ نيتسح، وهو التحمل، أو الأزلية والنصر.
8
ـ هود، أي جلال الإله.
9
ـ يسود عولام، أي أساس العالم. وهو أساس كل القوى النشيطة في الإله، وهو الذي يصل بينه وبين الأرض، ويُشار إليه أحياناً بكلمة «التساديك» (الصديق) أي الرجل النقي. ويرتكز على هذا التجلي كل التجلِّيات السابقة، كما أن الفيض الإلهي يصل إلى الشخيناه من خلال يسود عولام. ولذا، فهو يأخذ شكل القضيب.
10
ـ ملكوت، أو المملكة. وهو أيضاً عَتَراه (أو عتيريت)، أي التاج المرصَّع بالجواهر، أو الإكليل، وهي الشخيناه والماترونيت وكنيست يسرائيل (جماعة يسرائيل).
وتُقسَّم التجلّيات النورانية إلى مجموعات تضم كل منها ثلاثة: أولها التاج أو الإدارة، والحكم، والفهم، وهذه تشكل الجانب الفكري في الكيان الإلهي. أما العظمة والقوة والجمال، فتشكل الجانب النفسي أو الأخلاقي. وأما التحمُّل والجلالة والأساس، فهي تمثل القوى المادية في داخل الطبيعة. أما التجلي العاشر فيخضع لتفسيرات كثيرة، وهو القناة الموصلة بين الإله والدنيا. وتظهر الدروب أيضاً على هيئة مثلثات أو دوائر متداخلة، أو هيئة شجرة كونية شامخة جذورها في الإين سوف في الأعالي، وتمتد ساقها وأغصانها في اتجاه العالم الأرضي. وقد تم الربط بين التجلِّيات والرياح الأربع والعناصر الأربعة، وأيام الخلق السبعة والدورات الكونية السبع. كما ظهرت التجلِّيات على هيئة الآدم قدمون أو الإنسان الكوني (الأول أو القديم). وفي هذه الصورة، تشكل التجلِّيات الثلاثة الأولى رأسه، والرابع والخامس ذراعاه، والسادس صدره، والسابع والثامن ساقاه، والتاسع عضوه الجنسي، والعاشر يشير إما إلى الصورة كلها أو إلى الأنثى التي تصاحب الذكر. وعلى يسار الآدم قدمون كل الصفات السلبية، وإلى يمينه الصفات الإيجابية.
وقد صدرت كل التجلّيات عن الإين سوف الذي هو أيضاً الآيين، أي «العدم»، والذي يمكن أن نترجمه بعبارة «الإله الخفي»، وهو إله لا يمكن إدراكه ولا الصلاة له. أما التجلّيات النورانية، فهي تجليات ذاتية له، وفيض منه، وهي طريقه إلى أن يخلق نفسه. وقد كان يُنظَر أحياناً إلى التجلِّيات باعتبارها جزء لا يتجزأ من جوهر الإله، وأن مراحل التجلي تمت داخل الذات الإلهية. ولكن الرأي الغالب هو أن يُنظَر إليها باعتبارها أوعية منفصلة عنه يفيض فيها. وهذا يبين تذبذب القبَّاليين بين الرؤية التوحيدية التي ترى الإله جوهراً واحداً لا يتجزأ والرؤية الثنوية التي تقبل التعددية، وإن أدركت القبَّالاه الوحدة فهي وحدة أحادية حلولية مادية. والتجلّيات النورانية العشرة تقابلها تجلّيات عشرة مظلمة، هي السترا أحرا، وهي تجليات اليسار التي استقلت عن الذات الإلهية.
وعلاقة كل تجلٍّ نوراني (سفيراه) بسائر التجلّيات موضع دراسة مستفيضة من القبَّاليين، إذ يُنظَر إلى هذه التجلّيات باعتبارها متصلةً بعضها بالبعض الآخر، من خلال الشيفع، أي الفيض ، فتسري فيه الرحمة الإلهية وكأنها النهر. وأهم العلاقات بين التجلّيات علاقة التجلي السادس بالعاشر. فالتجلي السادس، وهو مركز النظام القبَّالي كلـه، يتلقـى فيض القوى العليا، وينسـقها ويرسـلها إلى القوى السفلى، ويجسد المقدرة الإبداعية الحيوية للتجليات ويعبِّر عنها من خلال الرموز الأساسية للذكورة، فهو كما أسلفنا الشمس والملك والعريس. أما التجلي العاشر، أي الملكوت، فهو الشخيناه أو التعبير الأنثوي عن الخالق، وهي الرحمة والقمر والملكة والعروس. ولكن، رغم أن التجلي العاشر يقع أسفل باقي التجلِّيات، فإنه ذو اليد الطولى في علاقته بالعالم السفلي (البشـري)، فيـتم تأكيـد جوانبـه الملكـية، ويصـبح هو الأم التي تتلقى سيل الرحمة التي تفيض من أعلى (من التجلي السادس).
ويتم التعبير عن العلاقة الأساسية بين التجلِّيات المختلفة من خلال صورة مجازية أو مقولة إدراكية جنسية واضحة. فالعلاقة بين الأب والأم (التجليان الثاني والثالث) علاقة جنسية واضحة، وهما في حالة مضاجعة دائمة وعناق أزلي، ومتى أراد الأب أن يقذف، فإنه يجد الأم على استعداد دائم (وهذا يذكرنا بالكاما سوترا الهندوكية). ويجب ألا ننسى أن الأب والأم هما النموذجان الأمثلان المتحققان. وقد حملت الأم من الأب، وأنجبت الابن والابنة، وكانا في الأصل كائناً واحداً أحادياً مخنثاً (ذكر/أنثى) يعبِّر عن الواحدية الكونية، ولكن الابن انفصل عن الابنة وبدأت قصة الحب بين الأخوين.
وابتعاد الأخوين هـو مصـدر الخلل الكوني، فإذا اجتمعا عمَّ السلام. وكان من المفترض، بعد عملية الخلق الأولى، أن يجتمع الابن والابنة بالمعنى الحَرْفي والجنسي، ولكن السقوط أدَّى إلى فراقهما وزاده. ويبدأ الملك في البحث عن الملكة (الماترونيت أو الشخيناه). وتصف القبَّالاه العلاقة بينهما، وكيف كان الملك يمسح ثدييها ويجتمع بها. ويصبح التجلي التاسع «اليسود» (تساديك) عضو التذكير الذي يصل بين الملك والملكة (وبالتالي يصبح شيفا الذي يفيض بالمنيّ في التراث الهندوكي). وقد خلق الإله الشعب اليهودي ليُصلح الخلل ويُقرِّب الابن والابنة. ولكن، بسبب ذنوب جماعة يسرائيل، هدم مخدع الشخيناه، أي الهيكل، فنُفيت الشخيناه معهم خارج فلسطين.
وبذلك تصبح الصورة المجازية الجنسية المقولة الإدراكية التفسيرية الكبرى في القبَّالاه، فهي تبيِّن سر الكون، ومصدر الوحدة بين الإله ومخلوقاته، وأصل مكانة الشعب المختار المتميِّزة، وهي أيضاً الطريقة التي تتوحد بها الذات الإلهية وتتحقق إذ أن توحُّد التجلِّيات هو توحُّد الإله واكتمال وجوده. وفي إحدى الدراسات، ورد أن الصورة المجازية الجنسية تُستخدَم لمعرفة علاقة التجلِّيات، الواحد بالآخر، وبالتالي فهي لا تنطبق على علاقة المخلوق بالإله. وبناء على ذلك، يصل المؤلف إلى أن التصوف اليهودي يختلف عن التصوف المسيحي حيث يرى المؤلف أن هدف التصوف المسيحي هو الاتحاد بالإله بينما هدف التجربة الصوفية اليهودية هو التواصل مع الإله والالتصاق به. ولكن الشخيناه، كما بيَّنا، تمثل حلقة وصل عضوية بين التجلِّيات المختلفة والعالم السفلي، بحيث لا يمكن فصل الواحد عن الآخر. كما أن فكرة التقابل بين الإله والمخلوقات، وهي فكرة أساسية في القبَّالاه، تجعل الوحدة والحلولية الكاملة أمراً واضحاً. وعلى كلٍّ أثبتت التطورات اللاحقة في الحركات المشيحانية أن الصورة المجازية الجنسية كانت أساسية في تفكير القبَّاليين وفي إدراك علاقة الإله بالإنسان. وإن كان ثمة اختلاف بين التصوفين المسيحي واليهودي، فهو في الهدف من عملية التوحد وفي نتيجته. فالهدف في التصوف المسيحي هو الفناء في الذات الإلهية، والثمرة هي السكينة، أما في التصوف اليهودي فالهدف هو التوحد مع الذات الإلهـية للتأثير فيـها، والثمرة هـي التحـكم. والتجلّيات النورانية هي، ولا شك، تعبير عن عودة ما إلى التفكير الأسطوري والأساطير الإغريقية بآلهتها المذكرة والمؤنثة وتصوير زواج زيوس بجونو، وهي تشبه أفكاراً مماثلة في النسق الديني الهندوكي. وبإمكان الدارس أن يُلاحظ كيف تأثر فرويد بهذا الفكر القبَّالي الذي درسه. وقد وُصفت القبَّالاه بأنها تجنيس الإله وتأليه الجنس (بمعنى الغريزة الجنسية).

التوحد بالإله والالتصاق به )ديفيقوت)Devekut
«التوحد مع الإله والالتصاق به» ترجمة لكلمة «ديفيقوت» التي تعني «الالتصاق بالإله». والكلمة تشير إلى الحب العميق للإله الذي يؤدي إلى التوحد معه، وهو مفهوم حلولي. والمصطلح يستند إلى تلك العبارة التي وردت في سفر التثنية (11/ 22): "لتحبوا الرب إلهكم وتلتصقوا به". وقد صار الديفيقوت مفهوماً مركزياً في القبَّالاه، وأصبح يشير عند إبراهيم أبى العافية إلى «الشطحة الصوفية». وهذا هو أيضاً معنى الكلمة عند الحسيديين الذين أصبح الدفيقوت هو العنصر الأساسي في عبادة الإله عندهم. ولكن الالتصاق بالإله لا يعني الخضوع له أو الفناء فيه وإنما يعني التوحد به، وهو توحُّد يـؤدي إلى معرفـة الإنسـان سـر الإله وطبيعته وكنهه بحيث يمكن التأثير في الإله والتحكم الإمبريالي في الكون.
التفسيرات الرقمية (جماتريا) Gematria
«التفسيرات الرقمية» هي الترجمة العربية لكلمة «جماتريا»، وهي كلمة مأخوذة من اللفظ اليوناني «جيومتري» ومعناه «هندسة». ومنهج الجماتريا هو منهج في شرح كلمات من العهدين القديم والجديد، ويستند إلى تحليل القيمة العددية لحروف الكلمات العبرية التي يعتبرها المفسرون القبَّاليون وغيرهم مقدَّسة. وقد ظهر هذا المنهج بين معلمي المشناه (التنائيم) في القرن الثاني الميلادي، وورد في التلمود مائة وخمسون حالة استخدام للجماتريا، ثم ساد هذا المنهج بين المفسرين بسيادة الفكر القبَّالي وطموحه الأساسي للوصول إلى العرفان أو الغنوص أو الصيغة الهندسية التي تؤدي إلى التحكم في العالم. وتُفسِّر العبارة التي وردت في سفر التكوين (14 /14) «318 عضواً في بيت إبراهيم» بأنها تعني «خادم إبراهيم»، لأن القيمة العددية لاسم هذا الخادم هي 318. وكلمة «ريدو»، وهي بمعنى «اهبطوا» الواردة في سفر التكوين (40/2) وتُفسَّر بأنها تشير إلى عدد السنوات التي قضاها شعب يسرائيل في مصر وقيمتها 210 سنوات (فالراء = 200، والدال = 4، والواو = 6). وقد استخدم القبَّاليون الجماتريا لتحديد تاريخ قدوم الماشيَّح. ويتميَّز منهج الجماتريا بأن المفسِّر الذي يستخدمه يمكنه أن يستخلص من خلاله أي معنى من أي نص. فالعهد القديم مليء بالكلمات التي يَسهُل اختيار المناسب منها لتتلاءم مع الرقم الذي يريده واضع الحساب. وكان هرتزل يكتب خطاباته أحياناً بطريقة لا يمكن فهمها إلا باستخدام منهج الجماتريا في التفسير.
التجلي الأنثوي للإله (شخيناه) Shekhinah
«التجلي الأنثوي للإله» تعبير تقابله كلمة «شخيناه»، وهي كلمة عبرية تعني حرفياً «السكون»، أو «الهجوع». وهي تشير في الأدبيات الدينية اليهودية إلى الحضرة الإلهية، أو حلول الإله في الإنسان والعالم. ويرى بعض علماء الدين أن ثمة علاقة بين فكرة الشخيناه، وفكرة اللوجوس في فلسفة فيلون. ويرى باتاي أن الشخيناه ـ أصلاً ـ إلهة كنعانية قديمة هي ملكة السماء وأن اليهود قاموا بعبادتها في المملكة الجنوبية قبل سقوط أورشليم، ويُقال إن بعض اليهود الذين فروا إلى مصر استمروا في عبادتها مدة طويلة بعد ذلك.
وقد جاء في العهد القديم (خروج 25/8، ولاويين 16/16) أن الإله يسكن وسط شعبه. ويؤكد التلمود أن الحضرة الإلهية لا توجد إلا في وسط الشعب. ولعل الشخيناه تتلبس أيضاً في اليهودي حينما ينفذ التعاليم الإلهية. وهي تتحول إلى حقيقة فعلية، أي تتجسد في الأشخاص والأماكن والأشياء ذات القداسة، وخصوصاً في ساعات الدروس الدينية والصلاة، أي أنها تتجلى داخل الزمان والمكان وفي الشعب اليهودي بأسره، ويرمز الضوء عادةً للشخيناه.
وفي التراث القبَّالي، تُعَدُّ الشخيناه أهم التجلِّيات النورانية العشرة (سفيروت) على الإطلاق، فهي السفيراه أو التجلي العاشر والأخير الذي يربـط بين الإله ومخلوقاته لأنهـا الحلقة الأخيرة وأقربها إلى العالم الأرضي، وهي التعبير الأنثوي عن الإله الذي يتلقى الفيض الإلهي (أو المنيّ الإلهي) ويوزعه على العالمين، وهي الابنة والماترونيت والملكة والقمر الذي لا يشع نوراً وإنما يعكس نور الشمس. وهي أيضاً راحيل التي تبكي من أجل الشعب، وهي الشفيعة بين الإله والإنسان (وهي في هذا تشبه العذراء مريم في اللاهوت الكاثوليكي الذي تأثر به القبَّاليون). وهي أخيراً كنيست يسرائيل أو شعب يسرائيل أو جماعة يسرائيل، وأعضاء الشخيناه هي أعضاء الشعب اليهودي. ورغم أنها آخر التجلِّيات، فإنها ذات اليد الطولى في علاقة كل التجلّيات بالعالم السفلي البشري، كما تجري المساواة بين الشخيناه والتوراة ويُقرَن بينهما.
والشخيناه، باعتبارها ابنة أو ملكة، كانت جزءاً من كيان واحد مخنث يضم الابن/الملك المقدَّس (السفيراه السادس) الذي انفصل عن أخته، ولكنه يبحث عنها دائماً ويطاردها، ولن يتم إصلاح الخلل الكوني الناجم عن سقوط الإنسان إلا بالجماع (الجنسي) بينهما. وقد خلق الإله الشعب اليهودي لإصلاح الخلل، وكان الكون قد اقترب من لحظة الخلاص هذه، حين اتحد الابن/الملك (في صورة موسى) مع الشخيناه فوق جبل سيناء. وكاد ينصلح الخلل، ولكن خطيئة العجل الذهبي أعادته مرة أخرى. ومع ندم الشعب على فعلته، بدأت مرة أخرى عملية الإصلاح التي أخذت شكل غزو أو اقتحام كنعان (هذا الاقتحام الذي يكتسب هنا معنىً جنسياً)، ثم بناء الهيكل الذي حلت فيه الشخيناه وتوحَّدت بالشعب (ويُلاحَظ أن كلمة «يحوِّد» العبرية وتعني «توحد» هي الكلمة التي تُستخدَم في النصوص الشرعية القانونية للإشارة إلى الجماع). وبسبب ذنوب جماعة يسرائيل هُدم مخدع الشخيناه، أي الهيكل، فنُفيت الشخيناه معهم خارج فلسطين.

وهدف الحياة الآن هو توحُّد (يحوِّد) الابن مع الشخيناه، فكلما زادت ذنوب جماعة يسرائيل زاد نفي الشخيناه وزاد بعدها عن الابن، وكلما حافظوا على الوصايا والصلاة وتنفيذ تعاليم التوراة ازداد اقتراب الابن من الابنة. وحتى يقوم اليهودي بدوره في عملية اليحود (الاجتماع/الجماع)، فإن عليه أن يردد الدعاء التالي قبل أن ينفذ أحد الأوامر أو النواهي، وقبل أن يؤدي صلاته: «من أجل توُّحد (يحوِّد) الواحد المقدَّس، الحمد له مع أنثاه (الشخيناه)». والشخيناه المنفيَّة البعيدة عن الابن/الملك/الشمس، يهجم عليها الشيطان سمائيل ويغتصبها، بل يهجم عليها آلهة (أو أشباه آلهة) آخرون، ويتمكنون جميعاً من السيطرة عليها وتملُّكها والتمتع بها. وقد كانت ثمرة هذا الاغتصاب خلق الأغيار الذين يرضعون منها، تماماً كما كان يفعل اليهود حينما كانت الشخيناه بينهم. ورغم أن الشخيناه هي العنصر الأنثوي، فإنها العنصر الأقوى والأكثر فعالية من العنصر الذكوري. وحينما تحين لحظة الانتقام من معذبي اليهود، ستتحول الشخيناه إلى وحش كاسر تقود جنوداً خرافيين. وهي بذلك (حسب رأي باتاي) تصبح مثل آلهة العذاب التي تُلحق الأذى بالجميع دون تمييز، وتصبح المرأة الكونية المدمرة التي تبتلع آلاف الأنهار: تتجه أيديها وأظفارها في جميع الاتجاهات ولا يهرب من قبضتها أحد. وسيخرج من بين ساقيها شاب هو الملاك ميتاترون الذي سيدمر العالم. ويُقال إن الشخيناه، في حالتها هذه، هي «السترا أحرا» أي (الجانب الآخر من الذات الإلهية) «قوى الشر».

وقد أثارت فكرة الشخيناه قضية الشرك والتوحيد. فهي يُنظَر إليها أحياناً كمجرد تجلّ للإله أو حتى كأحد أسمائه. ولكن أحد كتب المدراش جاء فيه فقرة يُفهَم منها أن الشخيناه مادة منفصلة عن الإله، وأنه وضعها بين جماعة يسرائيل، وأنه يتحدث معها أحياناً. والشخيناه، كما تَقدَّم، حلَّت في الهيكل، ولذا فقد أدَّى هدمه إلى صعودها إلى السماء أو إلى نفيها مع الشعب (وهناك رأي يذهب إلى أن جزءاً منها بقي حالاًّ في حائط المبكى يتأوه ويبكي من أجل الشعب). وخلاص جماعة يسرائيل يعني أيضاً خلاص الشخيناه. وهناك عبارات وطقوس وأدعية كثيرة يُفهَم منها تَجسُّد الشخيناه وتَجزُّؤها. ولابد أن فكرة التجسُّد هنا صدى للاهوت المسيحي أيضاً.

وقد حاول الفلاسفة اليهود أن يعيدوا تفسير فكرة الشخيناه بحيث يبعدون عن الإله أي تشبيه أو تجسُّد. ولذا، قرر سعيد بن يوسف الفيومي أن الشخيناه كيان مخلوق منفصل تماماً عن الإله، وبهذا احتفظ للجوهر الإلهي بوحدته. وقد قال: إن الشخيناه، مثل الملائكة، وسيط بين الإله والإنسان، وهي النور الذي يراه الأنبياء أثناء الوحي الذي يأخذ شكلاً بشرياً أحياناً. وقد تبعه موسى بن ميمون في ذلك. أما نحمان كروكمال، فقد حاول تفسيرها تفسيراً هيجلياً، فهو يرى أن لكل شعب قوة روحية، ولكن قوة الشعب اليهودي الروحية متجذرة في الروح المطلقة نفسها، وتأخذ أكثر الأشكال صفاء ونقاء، وتُدعَى الشخيناه. وهذا، حسب رأي كروكمال، ما كان يعنيه الحاخامات، حينما كانوا يقولون إن الشخيناه كانت تسير مع الشعب اليهودي. فهي هنا مثل فكرة الشعب العضـوي (فـولك) الألمانية التي نبـع منها الفـكر النازي. أما هرمان كوهـين، ففسرها بأنهـا الراحة المطلقة والأساس الأزلي للحركة. أما بوبر، فيعود إلى فكرة الانقسام والثنائية الأولى، فالشخيناه تعني أن الإله لم يهجر شعبه قط رغم كل معاناته وإنما يحل فيه وبينه. وتزداد الحلولية عند روزنزفايج، فالشخيناه جسر بين «إله آبائنا» و«بقية يسرائيل»، أي البقية الصالحة، كما أن نزول الشخيناه إلى اليهود وسكناها بينهم يعني الانقسام داخل الإله نفسه، فهو ينزل ويعاني مع شعبه يتجول معهم في منفاهم، بل إنه في نهاية الأمر يعاني أكثر من الشعب وتتحمل البقية الصالحة في يسرائيل أحزانه (وفي هذا صدى لفكرة الصلب المسيحية).

الـدورات الكونية Cosmic Cycles
لم تتناول القبَّالاه علاقة الإله بنفسه، أو علاقته بالبشر، ورؤية الكون وفكرة الشر، وحسب، وإنما حاولت أن تقدم رؤية للتاريخ أخذت شكل الدورات الكونية. وحسب هذا الرأي، يتكون الزمان الكوني، أي تاريخ الكون من البدء حتى النهاية، من سبع دورات تتكون كل واحدة منها من سبعة آلاف عام. وتتكون كل دورة من وحدات طول كل واحدة منها سبع سنوات، في نهاية كل منها تقع السنة السبتية أو سنة شميطاه. ويتحكم في كل دورة أحد الكواكب السبعة. وفي الدورة الخمسين (النهائية) سيحطم الإله العالم، فيعود إلى حالة الهيولي أو الفوضى الأولى، ثم تبدأ دورات أخرى.
وفي رواية أخرى، يتحكم في كل دورة كونية أحد التجلّيات النورانية العشرة (سفيروت) ابتداءً من التجلي الرابع، فالثلاثة الأولى خامدة كامنة خفيَّة، ولا تتحكم في أية عوالم خارجة عنها. وتخرج العوالم السبعة، التي تناظر التجلّيات النورانية السبعة (4 ـ 10)، من البيناه (الفهم)، وهي تُسمَّى أم العوالم. وبعد ستة آلاف عام، يحل الألف السابع، وهي مرحلة تحل فيها الدورة الكونية، ثم تظهر دورة كونية تالية تتحكم فيها السفيراه التالية حتى الدورة السابعة حينما ينحلّ كل الزمان في اليوبيل الكوني، ويعود الكون للبيناه، وتبدأ الدورات من جديد.
وكان الرأي الغالب بين القبَّاليين أن العالم الآن في دورة الجبوراه أي العدالة الصارمة، ولذا فإن الدورة السابقة كانت دورة حب الإله الفائض أو دورة الحسيد.
ولكل دورة تفسيرها الخاص للتوراة. فالكلمات باعتبار أنها دوال، تظل كما هي، أما المدلولات فتتغيَّر تماماً. ولذا، فتوراة الدورة السابقة لم تكن تضم أياً من الفرائض (الأوامر والنواهي). وقد ذكر القبَّاليون أن بعض أرواح الدورة السابقة ظهرت مرة أخرى في هذه الدورة، ولذلك يستطيع أصحاب هذه الأرواح أن يقرأوا التوراة السابقة، ويمكنهم كذلك أن يخففوا عبء الأوامر والنواهي بل أن يبطلوها تماماً. وهذا ما فعله شبتاي تسفي وفرانك وغيرهما من أصحاب الحركات المشيحانية الترخيصية.
ويمكن التوصل إلى أن الدورة الزمنية الأخيرة، دورة الشخيناه، سترى سيادة أعضاء جماعة يسرائيل، باعتبار أنهم متوحدون معها، وهكذا ينتهي التاريخ بانتصار اليهود. وترتبط فكرة الدورات الزمنية بأفكار أخرى مثل التناسخ والآدم قدمون. ومن الواضح أن فكرة الشعب المختار والعودة هي فكرة تعويضية يحاول اليهود أن يشكِّلوا من خلالها رؤية للتاريخ تحقق لهم ما لم يتحقق في التاريخ الفعلي. ويُلاحَظ أيضاً أن القبَّالاه بشكل عام، وفكرة الدورات الكونية بشكل خاص، تدل على أن أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب كانوا يشعرون بمدى ثقل الحمل الذي وضعته عقيدتهم على كاهلهم، وبدأوا يبحثون عن مخرج من هذه الورطة. وقد كانت الحركات المشيحانية الترخيصية تحقق لهم ذلك، ثم جاءت الصهيونية لتطرح نفسها بديلاً عن اليهودية، ولتضع اليهود فوق اليهودية، ولتجعل منهم شعباً مثل كل الشعوب لا شعباً مختاراً ينوء تحت نير الاختيار. وغنيٌّ عن القول أن فكرة الدورات الكونية تلغي أي إحساس بالتاريخ وتركز على البدايات والنهايات فقط، وهذه سمة أساسية في فكر الجماعات الوظيفية وفي الفكر الصهيوني. ( يتبع )
من اسهامات جـــــى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما رأيك فى مدونة هاجى ؟