الثلاثاء، 7 ديسمبر 2010

ابتسم أنت فى انتخوبيـــــا

اشعر بسعادة بالغة وانا أجلس على مقعدى الوثير هذا فى تلك الطائرة التى تقلنى إلى رحلة الأحلام ، تلك الرحلة التى حلمت بها طوال عمرى . وكنت أ ُمنى نفسى بها سنوات طويلة . وكنت أقف يوميا منتظراً عربة السرفيس أقول لنفسى أنا أنتظر السرفيس اليوم وقد يأتى الغد وتنتظرنى الليموزين ، وكلما كان ابنى يصنع طائرة ورقية التى انتزع ورقها من بعض اوراق ملفات العمل بمطتبى بالمصلحة حيث يبقى معى حتى تأتى أمه وتأخذه لأنها تنهى عملها مبكراً بسبب حصولها على ساعتين رضاعة وأنا أتعجب كيف يمكن لطفل أن يظل يرضع لمدة ساعتين واتعجب أكثر كيف تحصل على ساعات الرضاعة برغم بلوغ طفلى سن الخامسة ولكن لا مشكلة ، المهم انه يلعب بطائرته قائلا لى " تعالى يا بابا اركب معايا الطيارة " فابتسم له وانا أ ُمنى نفسى بركوب طائرة حقيقية حتى جاءت الفرصة عندما أعلنت احدى الشركات قائلة " محدش يرمى الغلاف " فكرست ساعة كل يوم من الاربع ساعات التى ارتاح فيها بالمنزل للبحث عن الأغلفة فى سلات القمامة حتى أصبح المنزل سلة مهملات كبيرة . حتى أسعدنى الحظ لأول مرة فى حياتى وأفوز برحلة بالطائرة من مطار ألماظة حتى المطار السرى . وأنا الآن جالس فى الطائرة أستعيد تلك الأحداث حتى سمعت صوت الطيار يقول لى " حدث عطل بسيط بمحركات الطائرة بسبب عدم صيانتها من 5 سنين وعدم وجود بنزين لآن بتاع البنزينة باعه لحسابه من الأخر الطيارة بتتحرق "  وقد استعجبت جدا حيث كان يخبرنى بهذا الكلام من شباك الطائرة وهو يريتدى باراشوت ويلوح لى مبتسما ، ابتسمت له فقد آسرتنى ابتسامته حيث لم يبتسم أحد فى وجهى طوال عمرى سوى هذا الرجل الذى عقد قرانى على زوجتى ثم عرفت بعد ذلك انه كان يسخر منى ، ولكن مهلاً الطائرة تحترق ؟؟؟ لالالالااااااااااااااااا. غبت عن الوعى فترة لا أعلم كم مقدارها لاستيقظ وأجد أمامى فتاة جميلة تقول " حمد الله على السلامة انت وقعت من الطيارة فى بلدنا انتخوبيا " رددت وراءها ببلاهة مخرجاً لسانى فاغراً فمى بطريقة اظهرت ضروسى المخلعة والمتآكلة بسبب السوس " أنتخوبيا " فى بلد كده ؟؟؟!!!! ردت قائلة " أصل احنا فى بلدنا مصابين بحوبيا الانتخابات يعنى بنحب الانتخابات جدا لدرجة اننا ممكن ننتخب أى حد علشان يبقى عضو فى أى حاجة وكمان احنا اقتصادنا مبنى على الانتخابات "   أجبت قائلا " آه يعنى فهمت يعنى اللى بينجح بيحقق مطالب الناس ويعين الشباب ويعمل مساكن ويعالج المرضى وكده " نظرت إلـًى باستغراب وتقزز وقالت " لأ طبعا اللى بينجح فى الانتخابات عدى وفات واللى فات مات بلاش نجيب سيرته خالص يعنى هو عمل اللى عليه ونجح وإحنا كمان المفروض نعمل اللى علينا ونسكت خالص المهم ما علينا إلا الديون ، اقتصاد بلدنا مبنى على الانتخابات ازاى اقولك ، الناس بتسترزق اللى بيعمل يفط بيكتبها واللى بيركبها  بيسترزق واللى بيقطع اليفط كمان بيسترزق واللى متغاظ من حد أهى فرصة يخلص منه واللى معندهوش ضمير ويبيع صوته أهو بيسترزق ده حتى الأموات بيسترزقوا " نظرت إليها قائلا " يا سلام ازاى بقى " ردت قائلة " احنا بنتعتبر صوت الميت ورث لأبنائه من حقهم انهم يبيعوه للى يعجبهم وأهو كله رزق " وهنا تفتق ذهنى عن سؤال لولبى فقلت لها " طيب واللى مالهوش ورثة صوته حيروح فين " نظرت إلىً مبتسمة ولم تجيب وهنا لمعت فى ذهنى تلك المقولة الخالدة " اللى ملهوش أهل الحكومة أهله " ثم أمسكت بيدى قائلة " تعالى معايا أنا حاخدك فى جولة تشوف المرشحين والانتخابات على الطبيعة " خرجنا سوياً لأجد نفسى فى ميدان واسع وأجد على يمينى صورة عملاقة لشخص مبتسم ممسكاً بيده اليمنى فخده عجالى واليسرى فخده ضانى ومكتوب " انتخبونى ..... رأفت شغته ...... رمز اللحمه .... اعدكم بتوفير كيلو لحمه بالساركوسيت ( ودى فيتامينات على فكرة ) لكل مواطن فى كل حملة انتخابية " سرنا قليلاً لأجد يافطة أخرى مكتوب عليها " المعلم تيفله الكينى رمز المج او ودن واسعة علشان تعرف تمسكه يعدكم بباكته 100 جم شاى وسكر لكل مواطن ، كما اعدكم بتوزيع ماء ساخن مستخرج من آبار صحية بعد نجاحى بعون المولى " ثم يليها بمسافة يافطة أخرى مكتوب عليها " الدكتور بفره الأفرجى .... دماغكم غالية عليا .... دماغكم دى من ربنا هدية .... دماغكم دى كيفها عليا ، ملحوظة سيتم الاتفاق على توزيع المعلوم فى الخباسة مع بعضينا " ثم رأيت يافطة عملاقة تتوسط الميدان ومضاءة جدا مكتوب عليها
الباش مهندس عبده الصريح والباش مهندس عبده ما حدش له حاجة عنده واللى يقف ضده ... عبده يفرمه واللى سانده ... بصراحة كده لا لحمة ولا سكر ولا شاى .... الكلام المفيد جاى .... ادينى صوتك يا حلاوة الانتخابات ديه .... تتأبج على باب اللجنة يا حلو ورقة بميه .... وظبط دماغك براحتك .... يعنى صناعة محلية .... المعلم عبده الصريح .... رمز اللبوسه لا تكدب عليا وتضحك فى وشى .... ولا اكدب عليك واديك بوسه . استغربت من هذا الاسلوب وهذه الطريقة فى الحملات الانتخابية وسألت مرافقتى قائلاً " هى دى انتخابات ايه " دى انتخابات لاختيار حيتان المدينة وكمان عندنا انتخابات لاختيار كداب المدينة وفشار المدينة ومهرج المدينة قلت لها " يعنى ما قلتيش انتخابات لاختيار كبير المدينة " ردت قائلة بسخرية " يا أخ بلدنا دى مالهاش كبير" قصدى يعنى احنا كلنا متساويين ... انت نسيت الديموقراطية ... سالتها وايه شروط الانتخاب عندكم المطلوبة فى المرشح قالت " انه يكون مولود من أب وأم وأن الكداب يكون بيعرف يكدب كويس والفشار بيفشر كويس والنصاب بينصب كويس وكده " قلت " طيب لو أنا اترشحت أترشح لمنصب إيه " ضحكت قائلة " انت ما تنفعش غير لمنصب مظلوم لأنك بتعرف تتظلم كويس أو مقهور أو مطحون " ثم غمزت قائلة " فاكر الطحن " ثم نظرت بعيداً وقالت لى " فرق الانقاذ جات علشان تاخدك انا مضطرة اسيبك دلوقتى وأتمنى أقابلك تانى لكن فى ميعاد الانتخابات عندكم انتو مش عندنا ... سلام " قلت ليها " انتى ماشية ده أنا حتى لسه معرفش اسمك " أشارت لى من بعيد وهى تقول " حرية عادل مظلوم " ثم اختفت بعيدا وتركتنى انظر إلى لا شىء حيث كانت تقف حتى اقترب منى أحد رجال الانقاذ قائلا بصوت أجش " انت يا زفت نمت تانى بالبنطلون اللى ما حيلتكش غيره انت ايه حماااار " استغربت أن تخرج هذه الكلمات من فم رجل الانقاذ ده صوت حرية أجمل مليون مرة ولكن مهلا هذا الصوت ليس غريبا عنى ، انتفضت بقوة وفتحت عينى لأجد زوجتى تصرخ قائلة " مين حرية دى فين حرية دى " تنهدت ثم ابتسمت ابتسامة واسعة قائلا لها " عارفة فين الحرية ............ فى الحلم " .        
من ابداعات هــــــــا

الأربعاء، 1 ديسمبر 2010

الكابالا ( 4 ) السحر والقبالاه المسيحية


السحر والكابالا "القَّبالاه"  المسيحية
السحر
«السحر» هو محاولة التحكم في الطبيعة عن طريق صيغ سحرية خفية. وإذا كانت الطبيعة تعبِّر عن سنن الإله في الكون، فإن تحدي قوانينها هو تحدٍّ للإرادة الإلهية وتحدٍّ لمقدرة الإله. وثمة تمييز دائم بين السحر الأبيض والسحر الأسود، فالأول يهدف إلى حماية الإنسان من الأرواح الشريرة ويهدف الثاني إلى إلحاق الأذى بالآخرين. ولكنه، مهما كان مضمون السحر، أبيض كان أو أسود، فهو يعبِّر عن رغبة إمبريالية فاوستية عارمة في التحكم في الإنسان والكون والإله. والمؤمن بالعـقائد التـوحيدية يؤمن بإله قـادر متجاوز للطبيعة لا يمكن تحدي مقدرته، ومن ثم فالسلوك الإنساني الأمثل هو سلوك أخلاقي . أما العقائد الحلولية، فترى أن الإله يحلُّ في الإنسان وتصبح إرادة الإنسان من إرادة الإله ومن ثم تصبح السيطرة على الإله ممكنة والوصول إلى الغنوص أو الصيغة السحرية أمراً متاحاً. ولذا، فإن العبادات الحلولية دائماً مرتبطة بالسحر.
ورغم أن الطبقة التوحيدية في التركيب الجيولوجي اليهودي تتبدَّى في الحث على السلوك الأخلاقي، فإننا نجد أن الطبقة الحلولية أكثر شيوعاً وتجذراً. وقد ساعد على شيوع السحر تَنقُّل العبرانيين بين شعوب وثنية تؤمن بالحل السحري (مثل المصريين القدامى والكنعانيين والبابليين ثم الفرس والمراحل الأخيرة من العصر الهيليني). وقد تبلور كل ذلك في الغنوصية التي تدور حول محاولة الوصول إلى الغنوص والحل السحري، والتي ضمت في صفوفها كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية.
ويوجد في العهد القديم هجوم على السحر والسحرة (لاويين 20/6، 27؛ تثنية 22/18) حيث يُعتبر السحر رجساً ونجاسة وزنى. ومع هذا، فهناك إشارات في العهد القديم إلى قبول السحر كوسيلة مشروعة. وهناك حادثة أليشع وهو ينصح الملك يوآش أن يتنبأ بفرص النصر ضد آرام عن طريق رمي السهام (ملوك ثاني 13/14 ـ 19). وقصة شمشون لا يمكن فهمها إلا في إطار أنها قصة ساحر يُعدُّ شَعره مكمن قوته وحياته بالنسبة إليه. ولعل أحجار أوريم وتوميم على رداء الكاهن الأعظم، وعمودي بوعز ويوقين في الهيكل، كانت لها وظائف سحرية. كما أن حادثة أصنام الترافيم تدل هي الأخرى على الإيمان بالسحر بشكل أو بآخر.
ويجب التمييز بين هذه الحوادث وأحداث أخرى في العهد القديم، خصوصاً في كتب الأنبياء، حيث يتنبأ الأنبياء لا كالعرافين والسحرة، وإنما انطلاقاً من إيمانهم بالإله الواحد ومعرفتهم لا بإرادته وإنما بنسقه الأخلاقي، فهو حتماً سيعاقب المذنبين ويثيب التائبين. وبالتالي، فإن التنبؤات الخاصة بسقوط القدس ليست عمليات تنجيم وإنما هي ما يمكن تسميته بـ «النذير». ويمكن رؤية معجزات الأنبياء والرسل في الإطار نفسه، فهي ليست تحدياً بشرياً للإرادة الإلهية بقدر ما هي تدخُّل إلهي يخرق سنن الطبيعة لتوصيل رسالة ما للبشر. والشعائر التي يقوم بها المؤمن تختلف تماماً عن الشعائر السحرية، فالشعائر التي يقوم بها المؤمن تهدف إلى إظهار طاعة المخلوق لخالقه ومحاولته التقرب منه، وجوهرها أن تتنازل الإرادة الإنسانية للإرادة الإلهية. أما الشعائر في الإطار السحري، فهي تهدف إلى التقرب من الإله ثم تحويل إرادته. ولعل هذا هو السبب في تأكيد الصراع بين يوسف وسحرة مصر (تكوين 41) ودانيال والسحرة في البلاط البابلي (دانيال2) والصراع بين موسى وهارون من ناحية وعرافي مصر وسحرتها من ناحية أخرى (خروج 7)، حيث يستخدم سحرة مصر سحرهم الخفي، أما موسى فيستغيث بالله الذي يغيثه. ولهذا، فإن نبوءات الأنبياء ومعجزاتهم والشعائر التي يؤديها المؤمنون مختلفة تماماً عن السحر والشعائر التي يقوم بها السحرة، بل تقف على النقيض منها.
ومهما يكن الأمر، فقد أصبح السحر اليهودي انعكاساً للوثنية السائدة في الشرق الأدنى في العصور القديمة إذ سقطت في الحلولية والوثنية والسحر تدريجياً، ثم بشكل سريع ابتداءً بالكتب الخفية (أبوكريفا)، ثم التلمود وأخيراً القبَّالاه حيث تدور القبَّالاه العملية بأسرها حول السحر. ولكن المفارقة أن نصوص العهد القديم أصبحت المادة الخام التي تُستخدَم للوصول إلى الصيغة السحرية، ففي منظومة الحلولية عادةً ما يصبح النص المقدَّس موضع الحلول الإلهي ويصبح النص جسد الإله، ومن يتحكم في النص يتحكم في الخالق. وقد أدَّى ذلك إلى ظهور مفهوم التوراتين (التوراة المكتوبة والتوراة الشفوية) الذي تطور ليصبح توراة الخليقة الظاهرة وتوراة الفيض الباطنية التي لا يصل إليها إلا من يمتلكون مقدرات خاصة على التفسير، وهي التوراة التي يمكن عن طريقها الوصول إلى الصيغة السحرية. ولذا، فقد كانت هناك فقرة (عدد 12/13) تصف شفاء مريم من البرص كتعويذة ضد الحمى. وكان مزمور 91 من أهم التعويذات على الإطلاق. وحتى لا تفهم الشياطين مضمون الفقرات التوراتية كان السحرة يلجأون إلى الاختصارات فكان يُنطَق بكلمة هي عبارة عن الحروف الأولى في الكلمات التي تشكل الفقرة التوراتية أو يُنطَق بحرف واحد يرمز للكلمة كلها (وهو أسلوب يعرف باسم «نوتاريكون») أو ينطق بالمعادل الرقمي للكلمة (أسلوب الجماتريا). وكثيراً ما كانت هذه التحويرات تستقل عن أصلها لتصبح كلمات مستقلة مثل كلمة «أبرا كادبراه abracadabra» التي يبدو أنها عبارة آرامية للإشارة إلى أحجار أبراكساس، وهي أحجار عليها حروف وأرقام كانت تُستخدَم لأغراض سحرية. وقد أصبحت كلمة «أبرا كادبراه» الصيغة المستخدمة لشفاء الأمراض.
وكان يُظن أيضاً أن اسم الإله، شأنه شأن التوراة، هو نفسه جسد الإله، ومن يتحكم في اسم الإله الأعظم (يهوه أو التتراجراماتون) يتحكم في الإرادة الإلهية. وقد استخدم اسم «شابريري» (شيطان العمى) فكان اسمه يُكتَب على هيئة مخروط مقلوب:
شابريري
شابرير
شابر
شا
وكان هذا المخروط المقلوب يُوضَع في حجاب يُلَف على رقبة المريض.
وإلى جانب السحر المرتبط بالنصوص والأرقام، يوجد السحر المرتبط بالحروف، وقد اكتسبت الأبجدية العبرية أهمية خاصة في السحر. ويُتداول حتى الآن في أرجاء العالم عدد كبير من التعاويذ والأحجبة التي تحتوي على حروف عبرية. كما أن نجمة داود نفسها كانت ذات دلالة بين المشتغلين بالسحر من اليهود وغير اليهود. بل إن الشعائر الدينية نفسها بدأت تتحول بالتدريج واكتسبت مضموناً سحرياً إذ أصبح الهدف منها السيطرة على الذات الإلهية أو على الأقل مساعدة الإله في إصلاح الخلل الكوني (تيقون) الذي يستعيد الإله من خلاله توحُّده ووجوده. ولذا، كانت الصلاة اليهودية تُؤدَّى باعتبار أنها تساعد في الزواج المقدَّس (زواج العنصر الذكوري في الذات الإلهية بالعنصر الأنثوي).
وبالتدريج، أصبحت صياغة الصلوات وطريقة تلاوتها أكثر أهمية من الرؤية الفلسفية الكامنة وراءها. وأصبح الإيمان بالملائكة ليس إيماناً بالغيب وبحدود ذات الإنسانية وإنما الإيمان بأرواح يمكن رشوتها وتوظيفها، والشياطين هي قوى يمكن خداعها عن طريق تلاوة الأدعية بالآرامية (مثلاً). بل إن كل الأوامر والنواهي فقدت مضمونها الأخلاقي الديني وأصبحت بمنزلة الشعائر السحرية. وظهرت شعائر مثل الـ «تشليخ» حيث يقوم اليهود بنفض ذنوبهم في الماء، وشعيرة «كاباراه» في ليلة يوم الغفران حيث تُذبَح دجاجة بعد أن تُمرَّر على رؤوس بعض اليهود لغسل الذنوب أيضاً. وقد وصلت كل هذه الاتجاهات إلى قمتها في الحركة الحسيدية حيث أصبح بوسع التساديك أن يغير الإرادة الإلهية عن طريق أداء بعض الشعائر والحركات، كما كان يبيع لأتباعه الأحجبة الكفيلة بتحقيق السعادة لهم فيما يشبه صكوك الغفران. ومع حركات شبتاي تسفي، يحل السحر تماماً محل الدين وتصبح الرقية والتعويذة والصيغ السحرية مركز العبادة. وقد وجدت قيادة الجماعة اليهودية منذ نهاية القرن السابع عشر تجارة رابحة في مثل هذه الأشياء. ومع حركة الاستنارة، بدأ ظهور العلم وبدأ البحث عن الصيغة العلمية لحل كل المشاكل، فتراجعت بالتالي الصيغة السحرية، إذ حلت الصيغة العلمية محلها.
وقد ارتبط أعضاء الجماعات اليهودية في الوجدان الغربي بالسحر للأسباب التالية:
1 ـ لعل أهم الأسـباب هـو الرؤية التوراتية لليهود باعتبارهم شعباً مقدَّساً، فالشعب المقدَّس عنده مقدرات عجائبية ولا شك، فهو موضع الحلول الإلهي الذي يعيش خارج الزمان. وقد أصبح الشعب المقدَّس هو الشعب الشاهد الذي يعيش على هامش المجتمع مع الشخصيات الهامشية مثل العرافين والسحرة. وفي الرؤية البروتستانتية الألفية، تحوَّل اليهود أنفسهم إلى ما يشبه الصيغة السحرية، إذ أن الخلاص قمين بعودتهم إلى أرض الميعاد وتَنصُّرهم.
2 ـ وقد عمَّق من هذا كله تحوُّل اليهود إلى جماعة وظيفية تعيش في المجتمع دون أن تكون منه في وقت كان فيه أعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية يعملون بالتجارة والربا. وفي المجتمع الإقطاعي، كان الفلاح يعمل بالزراعة والنبيل يعمل بالحرب والقسيس يعمل في الكنيسة، أي أن الجميع كانوا يعيشون من ثمرة عملهم. أما اليهودي، فكان يبدو وكأنه لا يعمل، فقد كان يحرك رأس ماله وحسب أو كان يحرك السلع من مكان لآخر ليحقق أرباحاً طائلة، فظهرت العملية كلها وكأنها سحر.
3 ـ ومما رسَّخ هذه الرؤية في الوجدان الغربي أن أعداداً كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية كانوا يعملون فعلاً بالسحر. والتلمود، في كثير من أجزائه، هو كتاب سحر، كما أن القبَّالاه العملية هي، أولاً وأخيراً، انشغال بالسحر وبمحاولة الوصول إلى الصيغة السحرية. وقد كانت الحركات المشيحانية، التي كانت تكتسح أعضاء الجماعات اليهودية من آونة لأخرى، حركات تعبِّر عن الإيمان بالحل السحري. ولعل ارتباط أعضاء الجماعات اليهودية بالسحر في الوجدان الغربي، ومن ثم بالشيطان، هو أهم أسباب معاداة اليهود والدافع وراء كثير من الهجمات الشعبية عليهم.

الجولمGolem
««الجولم» في التراث الديني اليهودي هي الصورة الحية أو تلك الصورة التي مُنحت الحياة كنتيجة لاستخدام كلمات ذات قيمة سحرية وحلولية. وقد ظهر المُصطلَح في التوراة (الإصحاح 129/16) بمعنى المادة الجنينية غير المُشكَّلة. وبهذا المعنى يدعو التلمود آدم بالاسم «جولم» في ساعاته الأولى قبل أن تُنفَخ فيه الروح، وهذه المرحلة توصف بأنها المرحلة الثالثة في خلق آدم.
وتتم صناعة أو تخليق الجولم بصياغة المادة الخام أو الأرض أو الأدمة على الهيئة التي يرغبها الصانع ثم تُكتَب «الكلمة» أو «اسم الإله » على الرأس أو الموضع الأعلى، ومن ثم تكتسب المادة الخام القدرة على الحياة.
وحسبما جاء في الأساطير الشعبية للجماعات اليهودية في وسط أوربا وشرقها، يقوم الجولم بحمايتهم ومساعدتهم على التخلص من كثير من المصاعب، وهو الخادم المطيع الذي يسمع أوامرهم وينفذها، فالجولم لا يستطيع الكلام أو التعبير ولكنه مُنفِّذ لأوامر سيده. وثمة ارتباط بين كلٍّ من أسطورة الجولم ورؤى «الأبوكاليبس» ونهاية العالم، فمثلاً نلاحظ ازدهار الأساطير الجولمية في الوقت نفسه الذي ازدهرت فيـه رؤى الأبوكاليبـس والتبشـير بالخلاص. ففي نهاية العـصور الوسطى، مع ازدياد الإيمان بالسحر وازدياد الحاجة للخلاص وبداية تصاعد الحمى المشيحانية، انتشرت وسط جماعات يهود اليديشية أساطير الجولم وقدرة الخلق باستخدام الاسم أو الكلمة وقيل إن إلياهو الشلمي (وهو رجل دين عاش في القرن السادس عشر) قد خلق جولم باستخدام «اسم الإله الأعظم» حتى أنه لُقِّب بـ «سيد الاسم» أو «بعل شيم».
ومن أهم الشخصيات اليهودية المرتبطة بأسطورة الجولم في تاريخ يهود اليديشية الحاخام يهودا لوف البراغي (1513 ـ 1609). وقد ساعد هذا الجُولم الذي خلقه هذا الحاخام، كما تقول الحكايات، على إنقاذ اليهود من متاعب كثيرة وفضح كذب تهمة الدم التي وجهت إليهم. وقيل إن الحاخام قد خلق هذا الجولم بأمر إلهي، وكشف له في المنام عن الصيغة المقدَّسة لصياغة الجولم مع الأمر بأن تُشطَب تلك الصيغة عن الرأس يوم الجمعة لكيلا يُدنِّس الجولم السبت المقدَّس. ويُقال إن بقايا هذا الجولم ما زالت مدفونة تحت أنقاض معبد براغ القديم. ومن أشهر الذين قيل إنهم قاموا بتخليق الجولم كلٌّ من إلياهو (فقيه فلنا)، وإسرائيل بعل شيم طوف مؤسس الحسيدية.
ومن الملاحَظ أن الأدب الجولمي أو أدب الشخصيات المخلقة قد انتشر في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في وسط أوربا وشرقها (أي موطن يهود اليديشية) ونذكر على سبيل المثال قصة الجولم للبافاري جوستاف ميرينك وقصة «دراكيولا» ذات الأصل الترانسفالي وقصة فرانكنشتاين ذات الأصل البومراني (النسبة إلى مقاطعة حدودية تقع بين تشيكوسلوفاكيا وألمانيا وبولندا).
وقد ارتبط انتشار قصص الجولم وأساطير تخليقه بفترة ازدياد الاتجاه للعلمنة. فقبل القرن السادس عشر كان الجولم مجرد أسطورة تفسيرية، لكن الجولم تحوَّل بعدئذ إلى واقع متخيَّل. فهو تجسيد أسطورة الخلق العلمانية، فبالإمكان استخدام الاسم الأعظم أو «الكلمة» (أي المعرفة العلمية أو «القانون العلمي») لتكوين المخلوق، وهو الاتجاه نفسه الذي كان سائداً في أوربا منذ بداية عصر الإصلاح الديني حيث بدأ يسود الاعتقاد بأن الفرد (لا الكنيسة) هو موضع الحلول الإلهي وهو منقذ ذاته ومخلصها، وهي الفكرة التي أصبحت في السياق العلماني الإيمان بأن الإنسان مكتف بذاته وأنه العبد والمعبود والمعبد، وهو ما يمكن تسميته «تأله الإنسان». والجولم يعبِّر عن هذا الجانب من الحلم العلماني ولكنه يعبِّر في الوقت نفسه عن جانب آخر، وهو خوف الإنسان العلماني (وشكوكه العميقة) من هذه القوة التي ينسبها إلى نفسها. ولذا، فإن الجولم، شأنه شأن فرانكنشتاين، يمثل ازدواجية المنقذ المدمر. وهو، بالتالي، يتيح له إسقاط مخاوفه ومتاعبه على هذه الشخصية المُخلَّقة ويعطيه هذا إحساساً بالتجاوز وأيضاً إحساساً بالقدرة على الإنجاز في فترات عدم الإنجاز والانهيار الشامل. إن الجولم يجسد لكل فرد إمكانية أن يكون صانعاً للجولم في يوم ما أو أن يكون الإله أيضاً، وهو في الوقت نفسه الوسيلة التي يفرغ بها الإنسان مخاوفه من هذا الطريق الشيطاني. والجولم، بهذا المعنى، معادل وظيفي دنيوي للأيقونة المنقذة المدمرة، أو تلك الدمية التي يصنعها الساحر أو الشامان ويخزها ليدمر الآخر أو ينثر حولها البخور والقرابين ليقوي الذات ويُقدِّم رشوة للآلهة فيمكنه أن يسلبها قوتها أو يُسخِّرها لإرادته.ومن ثم يُمثِّل الجولم دعم الذات ودمار الآخر.وتُصبح الأسطورة في ذاتها مُولِّدة لأساطير أخرى ترتبط بها ويتم من خلالها تفسير سلوك الآخر في نظر الذات أو تفسير سلوك الذات في نظر الآخر.
نوسـتراداموس (1503-1566) Nostradamus
اسم الشهرة لميشيل نوستردام، منجِّم وطبيب فرنسي، وأحد أكثر شخصيات عصر النهضة في الغرب إثارة وغموضاً، اكتسب شهرة واسعة عبر التاريخ بسبب ما يُقال عن تَحقُّق نبوءاته. وُلد في مقاطعة بروفانس في فرنسا لعائلة من أصل يهودي حيث اعتنق جداه المسيحية بعد أن خضعت مقاطعة بروفانس للحكم الفرنسي عام 1482 وخيَّر لويس السابع رعاياه من اليهود بين الطرد أو التنصر. وقد اتخذ جده أبراهام سولومون دي سانت ماكسيمين، بعد اعتناقه المسيحية، اسم بيير دي نوستردام. وقد وُلد نوستراداموس مسيحياً ونشأ نشأة كاثوليكية وإن تلقَّى قسطاً من تعليمه على يد جديه (اليهوديين سابقاً). ودرس الطب في جامعة مونبلييه، وتخرج فيها عام 1529، واكتسب سمعة طيبة بعد نجاحه في علاج كثير من الأمراض، وخصوصاً الطاعون، باستخدام أساليب متطورة وغير تقليدية. ولكنه فشل في علاج زوجته وأولاده عندما أصابهم الطاعون وتوفوا عام 1538. وقد أمضى نوستراداموس الفترة ما بين عامي 1538 و1547 متنقلاً من مكان إلى آخر، ويُقال إنه التقى في إيطاليا بيهود من القبَّاليين ثم عاد إلى فرنسا حيث اتجه اهتمامه إلى السحر والتنجيم وعالم القوى الخفية. وأصدر نوستراداموس عدداً من الأعمال في التنجيم، كان من أشهرها على الإطلاق نبوءاته التي صدرت عام 1555 وضمت 350 رباعية كُتبت بلغة فرنسية وبأسلوب مبهم وغامض. وقد نُظمت الرباعيات في مجموعات، تضم كل مجموعة مائة رباعية، ولذلك عُرف هذا العمل أيضاً باسم «المئويات». ولم يلق هذا العمل أي اهتمام إلا عندما تحققت إحدى نبوءاته وهي مقتل الملك الفرنسي هنري الثاني في حادث عام 1559. ومنذ ذلك الحين، بدأ الاهتمام الواسع بفك غموض نبوءات نوستراداموس ومحاولة تفسيرها. وقد عُيِّن نوستراداموس عام 1564 طبيباً للملك الفرنسي شارل الرابع ومستشاراً له.
وبرغم أن أغلب رباعيات نوستراداموس بالغة الغموض ومكتوبة بأسلوب يصعب فهمه، إلا أن بعض نبوءات نوستراداموس قد تحقَّق بالفعل؛ مثل أحداث ثورتي إنجلترا وفرنسا، وصعود وسقوط نابليون، ونجاح الإنسان في الطيران، وتخلِّي إدوارد الثامن عن العرش في إنجلترا، وصعود زعيم ألماني اسمه «هيستر» الذي سيتسبب في إراقة كثير من الدماء في أوربا قبل هزيمته، وهو ما اعتبر إشارة للزعيم النازي هتلر (ومع هذا، لم يقم أحد بدراسة النبوءات التي لم تتحقق وعددها ونسبتها إلى إجمالي عدد النبوءات).
ومن المعروف أن كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية يتجهون نحو الاشتغال بالسحر والتنجيم بسبب تأثير القبَّالاه ذات النزعة الحلولية. والواقع أن الأنساق الحلولية تجعل الهدف من وجود الإنسان ليس الاتزان مع الذات أو الطبيعة (من خلال الاعتراف بالحدود) وإنما التحكم في الواقع من خلال معرفة الإله الحالّْ في المادة والتاريخ). وكانت القبَّالاه قد بدأت في الهيمنة الكاملة على الفكر الديني اليهودي، وخصوصاً في منطقة مثل بروفانس لا تبعد كثيراً عن إسبانيا مهد القبَّالاه، حيث وُجد فيها أيضاً عارفون بالقبَّالاه وتزايد عدد اليهود المشتغلين بما يُسمَّى «القبَّالاه العملية»، ولعل نوستراداموس جزء من هذا الاتجاه.

وبتزايد أزمة اليهودية الحاخامية تزايد البحث عن الحل السحري،الذي يؤدي إلى التحكم الإمبريالي الكامل في الذات والطبيعة،بدلاً من التوازن معهما،وهو اتجاه استمر حتى العصر الحديث،حيث يُلاحَظ تركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في الجماعات التي تبحث عن الحلول السحرية والتي يمكن عن طريقها حل كل المشاكل بضربة واحدة (جماعات التنويم المغناطيسي ـ العبادات الجديدة ـ التنجيم ـ الحركات السرية ـ الحركات الثورية المتطرفة).
صمويل فولك 1710- 1782
يهودي قبَّالي ومغامر يُعرف باسم «بعل شيم لندن». وُلد في جاليشيا، وكانت تربطه علاقة وثيقة بزعماء الحركة الشبتانية. وقد عُرف كساحر وهرب من وستفاليا خوفاً من تطبيق عقوبة الموت حرقاً عليه (وهي العقوبة التي كانت تُطبَّق على السحرة). وقد قام الأسقف حاكم كولونيا بنفيه، فوصل إلى لندن عام 1742 حيث مكث بقية حياته. وقد أحاطت به سمعة سيئة في الأوساط اليهودية والأوساط غير اليهودية لممارساته القبَّالية التي تستند إلى استخدام اسم الإله الأعظم الخفي، ومن هنا أصبح اسمه بعل شيم (صاحب أو سيد الاسم المقدَّس). وكان يمتلك في منزله معبداً يهودياً خاصاً، وأقام معملاً قبَّالياً أجرى فيه بعض التجارب التي تهدف إلى تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب. وقد أثارت التجارب بعض الاهتمام. ومن بين من انجذب إليه تيودور دي ستاين، وهو مغامر كان يدَّعي أنه ملك كورسيكا وكان يأمل أن يحصل على ذهب يكفي لاستعادة عرشه. وكان فولك على اتصال أيضاً ببعض أعضاء النخبة مثل دوق أورليانز والأمير البولندي تشارتوريسكي والماركيز دي لاكروا. ومن الشائعات التي انتشرت حوله أنه أنقذ المعبد الكبير في لندن من الدمار بالنار، وذلك من خلال بعض الكتابات السحرية التي كتبها على عتبته. ولكن الحاخام جيكوب إمدن هاجمه باعتباره مهرطقاً شبتانياً، ولكنه وقف إلى جواره في معركته مع عائلة جولد سميد. ويبدو أن فولك كسب مراهنة، أو لعل أحد الأسر اليهودية قد أعطته ثروة صغيرة، إذ أنه مات ثرياً. وقد أوصى فولك ببعض ثروته لأعمال الخير وللحاخامية الرئيسية في لندن.
القــبَّالاه المســيحية 
مُصطلَح «قبَّالاه مسيحية» مُصطلَح يشير إلى مجموعة الكتابات التي وضعها مؤلفون مسيحيون تبنَّوا المنظومة المعرفية القبَّالية. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن القبَّالاه المسيحية ثمرة احتكاك الفكر الديني المسيحي بالفكر الديني اليهودي الذي سيطرت عليه القبَّالاه، وأن الفكر الديني اليهودي « أثَّر» في المسيحية. ولا شك في أن مثل هذا الاحتكاك كان له أكبر الأثر في شيوع الفكر القبَّالي بين المسيحيين. ولكننا، في الواقع، نميل إلى الأخذ بنموذج توليدي في التفسير، ونذهب إلى أن ثمة طبقة غنوصية حلولية كامنة في كل المجتمعات، وخصوصاً بين الطبقات الشعبية التي تجد أن من العسير عليها أن تتجرَّد من الواقع المباشر لتدرك العالم من خلال فكرة الإله الواحد المنزَّه عن المادة التي تُخلَق من العدم، فالكثرة المادية أمر تدركه حواس الإنسان بصورة أكثر يسراً من إدراك فكرة الإله الواحد المتجاوز، والكل أكثر صعوبة في إدراكه من الجزء إذ يتطلب تجرُّداً من الذات وتجاوزاً لها. وهذه الطبقة الغنوصية تولِّد أنساقاً دينية مختلفة، والنسق القبَّالي لا يعدو كونه أحد هذه الأنساق. ويُلاحَظ، على سبيل المثال، أن الفكر القبَّالي اليهودي قد ازدهر في مقاطعة بروفانس في الوقت الذي ازدهر فيه الفكر الغنوصي بين المسيحيين (الهرطقة الألبيجينية). وقد ازدهرت القبَّالاه اليهودية في شبه جزيرة أيبريا مع بداية ازدهار التصوُّف الحلولي المسيحي. كما أن كتاب الزوهار قد بدأ انتشاره مع ازدهار المتصوف الألماني المعلم مايستر إيكهارت Meister Eckhart (1260 ـ 1329). فالتربة التي ساعدت على ازدهار القبَّالاه الغنوصية بين اليهود هي نفسها التي ساعدت على ازدهار أنماط غنوصية في التفكير بين بقية أعضاء المجتمع، خصوصاً في الطبقات الشعبية. كما تنبغي الإشارة إلى أن الفكر الديني المسيحي نفسه دخلته عناصر غنوصية تبناها من الفكر الهيليني أو من العهد القديم. كما أن التأملات الثيو صوفية المسيحية مسألة تسبق ظهور القبَّالاه بزمن طويل. وقد كان الفكر الأفلوطيني (بكل منظومته الأسطورية) أمراً راسخاً هو الآخر في العقل المسيحي الرسمي والشعبي. ولعل أهم العوامل التي خلقت لدى الغرب المسيحي استعداداً كامناً قوياً لتَقبُّل القبَّالاه اليهودية هو اتجاهه نحو تبنِّي رؤية حلولية كمونية تجسدية للكون (مع نهاية العصور الوسطى)، ويتضح هذا في هيمنة الرؤية الهرمسية وشيوع فكرة اللاهوت القديم، أي أن كل الأديان تعود إلى أصل واحد، وتزايد ظهور الرؤية المعرفية الإمبريالية حيث يصبح هدف الوجود الإنساني السيطرة على الكون لا التوازن معه.
ويمكن القول بأن القبَّالاه المسيحية تعود إلى القرن الخامس عشر، وكانت تهدف إلى تحقيق عدة أغراض: محاولة تنصير اليهود عن طريق التوفيق بين أفكار القبَّالاه اليهودية والعقائد المسيحية، وإظهار أن المعنى الحقيقي للرموز القبَّالية يشير إلى اتجاه مسيحي. وهذه المحاولة لم تكن تبشيرية متعسِّفة كما قد يبدو لأول وهلة، فكثير من رموز القبَّالاه نشأت في تربة مسـيحية (إسـبانيا الكاثوليكية) وهي عبارة عن تشويه لهذه الرموز. كما أن الفكر القبَّالي فكر تجسيدي يجعله يقترب إلى حدٍّ ما من الفكر المسيحي. وبطبيعة الحال، فإن هناك الطبقة الغنوصية الكامنة في كلٍّ من النسق الديني اليهودي والنسق الديني المسيحي، تلك الغنوصية التي تزدحم بها صفحات العهد القديم؛ الكتاب المقدَّس عند المسيحيين واليهود جميعاً. وإلى جانب هذا، كانت هناك الرغبة في اكتشاف الصيغة السحرية التي يمكن التحكم من خلالها في الكون والتي عبرت عن نفسها في انتشار الرؤية الهرمسية واكتساحها كثيراً من المفكرين الغربيين. كانت هناك رغبة وثنية عميقة سادت أوربا مع بدايات عصر النهضة غايتها التوصل إلى كل الحقيقة من خلال دراسة نصٍّ ما، وقد كان ظهور القبَّالاه مناسباً لهذا الغرض. ومع تزايد معدلات العلمنة وتصاعد الرؤية المعرفية الإمبريالية، ازداد الاهتمام بالقبَّالاه باعتبارها مفتاحاً للعلم (كل العلم) والعالم (كل العالم) وهي الرغبة التي تحولت إلى المشروع العلمي الحديث الذي يتصور أن بوسع الإنسان الإحاطة بقوانين الحركة في الطبيعة والتحكم الكامل فيها عن طريق هذه المعرفة.
هذا هو الأساس التوليدي لتغلغل القبَّالاه، فهو استعداد كامن في الحضارة الغربية نفسها، كان قد بدأ يتحقق من خلال عدة عناصر داخلية. ولم يكن شيوع نصوص القبَّالاه اليهودية سوى عنصر مساعد ساهم في الإسراع بالعملية وساعد على بلورتها.
ويبدو أن عدداً كبيراً من اليهود الذين تنصروا قد ساهموا بشكل فعال في نقل الأفكار القبَّالية، ثم انضم إليهم العديد من يهود المارانو. ومن أهم مراكز الفكر القبَّالي المسيحي الأكاديميات الأفلاطونية التي شيدها آل مدتشي في فلورنسا والتي اكتشف علماؤها القبَّالاه اليهودية والنصوص الهرمسـية ورأوا أنها تحتوي على كشف إلهي للجنس البشري فُقد بعض الوقت وتم استرجاعه. وقد ذهبوا إلى أن العالم بوسعه فهم فلسفة فيثاغورس وأفلاطون بل العقيدة الكاثوليكية نفسها من خلال النصوص القبَّالية. ومن أهم الشخصيات التي ساهمت في نقل القبَّالاه إلى العالم المسيحي، اليهودي المتنصر فلافيوس مثراديتيس Flavius Mithradites (ويُقال إنه هو نفسه صمويل نسيم أبو الفرج الذي كان يعيش في صقلية في القرن الخامس عشر) والذي ترجم مقطوعات طويلة من القبَّالاه إلى اللاتينية لتلميذه العالم الفلورنسي بيكو ديلا ميراندولا Pico della Mirandola (1463 ـ 1494) الذي قام بصياغة 900 أطروحة طرحها للمناظرة العامة، كان من بينها 47 أطروحة مستقاة بشـكل مباشـر من القبَّالاه و72 أطروحة اسـتخلصها هو من قراءته للقبَّالاه. بل إنه ذهب إلى أن العلم القبَّالي (والسحر) أفضل السبل لإقناع الإنسان بألوهية المسيح. وتُعَدُّ هذه اللحظة النقطة التي وُلدت فيها القبَّالاه المسيحية كمنظومة تتحدى المنظومة المسيحية الأرثوذكسية أو تقوضها من الداخل (وهو الأمر الأكثر شيوعاً). وقد بيَّن بيكو أنه يمكن التدليل على صدق عقيدة التثليث والتجسد على أساس ما ورد في القبَّالاه.

ومن أهم تلاميذ بيكو ديلا ميراندولا، العَالم الألماني يوحانيس ريوشلين Johannes Reuchlin (1455 ـ 1522) الذي درس القبَّالاه بعمق ونشر كتابين باللاتينية عن الموضوع: الكلمة صادقة المعجزات (1494) أول كتاب باللاتينية في القبَّالاه، و في علم القبَّالاه (1517). وقد ربط ريوشلين بين مفهوم التجسد المسيحي وفكرة أسماء الإله المقدَّسة.
وقد اكتشف المسيحيون كلاًّ من القبَّالاه النظرية التأملية والقبَّالاه العملية (السحر). وتُعدُّ أعمال هنري كورنيليوس أجريبا النتيشيمي Henri Cornelius Agrippa von Nettesheim (1486ـ 1535) من أهم الأعمال التي تناولت القبَّالاه العملية. واستمر الاهتمام بالقبَّالاه في الأوساط المسيحية، فكتب الكاردينال إديجيو دا فيتربو Edigio da Viterbo (1465ـ 1532) عدة دراسات متأثرة بالزوهار، وألَّف الراهب الفرنسي فرانسيسكو جيورجيو البندقي Francesco Giorgio of Venice (1460 ـ 1540) كتابين ضخمين تشكل القبَّالاه فيهما الموضوع الأساسي. وقد كان جيورجيو أول كاتب مسيحي يقتبس من كتاب الزوهار باستفاضة. وتُبيِّن كتابات المتصوِّف الفرنسي جويوم بوستل Guillaume Postel (1510 ـ 1581) مدى اهتمامه بالقبَّالاه، فقد ترجم الزوهار وسفر يتسيراه إلى اللاتينية (حتى قبل أن يُطبعا بلغتهما الأصلية) وكتب لهما تفسيراً مستفيضاً. وقد نشر عام 1548 تعليقاً قبَّالياً عن المعنى الصوفي لشمعدان المينوراه. وقد ازداد الحماس المسيحي للقبَّالاه، حتى أن بعض المفكرين بدأوا في جمع النصوص القبَّالية التي كانت لا تزال مخطوطة. ومن بين هؤلاء يوهان ألبرخت ويدمانستتر Johanne Albrecht Widmanstetter (1506-1557) وقد ظلت مراكز دراسات القبَّالاه على يد المسيحيين في إيطاليا وفرنسا طوال القرن السادس عشر، ولكنها انتقلت إلى ألمانيا وإنجلترا في القرن السابع عشر.
وقد تبنَّى المتصوِّف الألماني جيكوب بومه Jacob Boehme (1545 ـ 1624) نسقاً قبَّالياً غنوصياً. ويتحدث بومه عن «أون جروند Ungrund» وهي الهوَّة (حرفياً: «اللا أرض»)، وهي أيضاً الإرادة الأولى أو العدم الأزلي، وكلها عبارات تذكرنا بالإيين والإرادة الإلهية الأولى في القبَّالاه. وقد شبه بومه اللا أرض هذه بالنار الخفيَّة التي توجد ولا توجد (وهي عبارة وردت في الزوهار). ويتضح النسق القبَّالي وبحدة في الثنائيات الصلبة التي تسم نسق بومه. كما أن مفهوم بومه الخاص بالسقوط باعتباره خللاً أو عدم اتزان بين عناصر الكون الأربعة يشبه تماماً فكرة الخلل الكوني في القبَّالاه (وعند هذه النقطة يصبح من العسير التحدث عن القبَّالاه مستقلةً عن النسق الغنوصي الذي يَصدُر عن فكرة أن السقوط ليس ناجماً عن الخطيئة وإنما عن خلل ما).
ومهما كان الأمر، فإن تبنِّي بومه لهذا النسق قد جعله من أهم القنوات التي تحولت من خلالها القبَّالاه إلى رافد أساسي في الفكر الديني المسيحي واليهودي. وقد بدأت الأفكار القبَّالية تتبدَّى في كتابات وأعمال بعض الفنانين مثل الفنان الألماني دورر Durer. وقد قام كريستيان نور فون روزينروث Christian Knorr Von Rosenrotth بنشر أجزاء ضخمة من الزوهار والقبَّالاه اللوريانية في كتابه كشف القبَّالاه (1684)، وقد حقق الكتاب ذيوعاً كبيراً بين أعضاء النخبة الثقافية في أوربا. أما العَالم اليسوعي أثاناسيوس كيرشر Athanasius Kirsher، فبيَّن التوازي بين مفهوم الآدم قدمون ومفهوم المسيح كإنسان أوَّل. وظهر اصطلاح «القبَّالاه المسيحية» لأول مرَّة في كتابات فرانسيسكوس ميركوريوس فان هلمونت Franciscus Mercurius Van Helmont، وهو عَالم دين هولندي يشكل حلقة وصل بين القبَّالاه وفلاســفة كمبردج الأفلاطونيين، وكذلك الذين تأثروا بالقبَّالاه مثل: رالف كدور Ralph Cudworth وتوماس فون Thomas Vaughn، وتوماس بيرنت Thomas Burnet.
ولكن هنري مور Henry More (1614 ـ 1697) هو أكثر فلاسفة كمبردج اهتماماً بالقبالاه وتأثراً بها. وقد تأثر مور بالفلسفة الفيثاغورسية وتقاليد اللاهوت القديم والأفلاطونية الحديثة (وحدة وجود روحية)، ولكنه تأثر أيضاً بالفلسفة الديكارتية (وحدة وجود مادية). وقد حسم هذا التناقض بأن جعل الحركة الآلية للمادة نتاج «روح الطبيعة»، أي الروح (الإلهية) التي تسري في المادة. وكانت القبَّالاه إحدى الآليات التي حسم بها هذا التناقض فكان يذهب إلى أن التقاليد القبَّالية (بتأكيدها على الجماتريا وغيرها من المفاهيم التي تنبع من رؤية واحدية كونية) تحوي داخلها المنظومة الديكارتية. وكان مور يرى أن القبَّالاه اليهودية أُعطيت لموسى حينما صعد إلى جبل سيناء. وأنها كانت تضم تلك الأسرار التي أتى بها فيثاغورس وأفلاطون من مصر ومن فارس. ولذا مزج مور بين تعليقاته القبَّالية وبين صوفية الأعداد الفيثاغورسية وتعاليم أفلاطون والأفلاطونية المحدثة. وهكذا تلتقي الحلولية الكمونية الروحية بالحلولية الكمونية المادية. وقد كتب مور كتاباً يُسمَّى الإشراقات القبَّالية وتظهر في كتاباته إشارات عديدة للقبَّالاه والصوفية المركبة.
وهناك كذلك إشارات للقبَّالاه في كتابات توماس ناش Thomas Nash وفرانسيس بيكون Francis Bacon، ففي كتابه أطلانطيس الجديدة (1627) ثمة وصف لجزيرة فيها مجتمع مثالي تضم جماعة يجتمعون في مجمع علمي يُسمَّى «بيت سليمان» ويتبعون تعاليم القبَّالاه. وهذا المجتمع يختلف تماماً عن الجامعات البريطانية في ذلك الوقت التي كانت لا تزال تُكرِّس جُلَّ وقتها للدراسات الإنسانية والفلسفية، على عكس مجمع أطلانطيس الذي كان يكرس وقته لمعرفة الأسباب والحركة الخفية للأشياء ويرمي إلى توسيع حدود الإمبراطورية الإنسانية حتى يؤثر في كل الأشياء الممكنة. وقد تبدى أثر القبَّالاه كذلك في منظومة الفيلسوف ليبنتس الحلولية. وقد يكون من المفيد أن نشير هنا إلى أن فلسفة إسبينوزا التي اكتسحت العالم الغربي بأسره هي فلسفة ذات أصول قبَّالية واضحة. ولعل إسبينوزا، الذي عَلمَن الخطاب القبَّالي والحلولي، هو أهم القنوات التي تدفَّق من خلالها الفكر الحلولي القبَّالي وخطابه على العقل الغربي.
ويُلاحَظ أنه منذ القرن الثامن عشر، بدأت تتضح للقبَّاليين المسيحيين العلاقة بين القبَّالاه والسحر ورموز علم الكيمياء في العصور الوسطى Alchemy والتي تتبدَّى في كتابات الدبلوماسي الفرنسي بليز دي فيجينير Blaise de Vigenere (1523 ـ 1596). ويصل هذا التيار إلى قمته في كتابات المتصوِّف الألماني فريدريك أتنجر (1702 ـ 1782) الذي تركت أعماله أثراً عميقاً في كتابات كثير من الفلاسفة الألمان مثل شلنج وهيجل.
وقد ذهب أوتينجر إلى القبَّالي اليهودي كويل هيخت المقيم في جيتو فرانكفورت طالباً منه المزيد من المعرفة عن القبَّالاه، فأجابه الأخير بأن ما كتبه المسيحيون عن القبَّالاه أوضح بكثير مما جاء في كتاب الزوهار، وكان على حق في هذا، فالقبَّالاه المسيحية كانت من الذيوع والوضوح بحيث أن كثيراً من المتصوفين اليهود الذين كانوا يريدون تعميق معرفتهم بالقبَّالاه كانوا يقرأون كتب القبَّالاه المسيحية بل كتب القبَّالاه اليهودية التي نشرها المسيحيون!
ويتضح هذا الاختلاط بين القبَّالاه والسحر في رموز الماسونيين الأحرار في منتصف القرن الثامن عشر. وقد ظهرت بعد ذلك أعمال مارتين دي باسكوالي Martin de Pasqually (1722 ـ 1774) التي تركت أثراً عميقاً في تلميذه الفرنسي لوي كلود دي سان مارتين Louis Claude de St. Martin، وهو من أهم المتصوفين الفرنسيين قبيل الثورة الفرنسية. وقد حامت الشكوك حول انتماء باسكوالي إلى يهود المارانو (وهي شكوك أيدتها البحوث الحديثة). ومن أهم الأعمال القبَّالية المسيحية، كتابات فرانز جوزيف موليتور Franz Josef Molitor الألماني (1779 ـ 1861).

وقد أصبحت القبَّالاه جزءاً لا يتجزأ من رؤية كثير من المثقفين الغربيين، أو النموذج أو الصورة المجازية الكامنة في فكرهم، حتى أنه لا يمكن الحديث عن أصولها اليهودية. فالمفكر الديني السويدي عمانويل سويدنبورج Swedenborg الذي أثَّر في ويليام بليك William Blake، الذي تشبع بالمنظومة القبَّالية حتى أصبحت منظومته الفكرية قبَّالية غنوصية دون أن يطلع على أية مصادر يهودية.
ويتبدَّى أثر قبَّالاة الزوهار على مدام بلافاتسكي Blavatsky وهي من أشهر المشتغلات بالتأملات الثيو صوفية في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر (وكانت من جماعة الدوخوبور الروسية التي تركت أثراً عميقاً في مؤسسي اليهودية الحسيدية). وقد تركت القبَّالاه أثراً عميقاً في سترندنبرج الذي كتب في مفكرته السرية ما يلي: "فتحت الكتاب فوجدت القبَّالاه... وكنت أفكر أن يهوه إن هو إلا أيون سفلى". وقد طوَّر الشاعر الأيرلندي و. ب. ييتس W. B. Yeats نسقاً قبَّالياً غنوصياً. وكان كارل يونج، معجباً أيما إعجاب بالقبَّالاه وبخاصة فكرة تهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) وكيف يشارك الإنسان في إصلاحها (تيقون) "فلأول مرة تنبثق فكرة أنه يجب على الإنسان أن يساعد الإله في رأب الصدع الحادث من عملية الخليقة".
وبإمكان الدارس أن يجد آثاراً عميقة كامنة للقبَّالاه في أدب فرانز كافكا وبورخيس، بل في مؤلفات الكاتب الألماني الماركسي وولتر بنجامين. ويُقال إن أشعار الشاعر الإنجليزي ناثانيل تارن Nathaniel Tarn وروايات الروائي الأسترالي باتريك وايت Patrick White، وخصوصاً روايته راكبو العربة (1961)، تُبيِّن الأثر العميق للقبَّالاه. ويتبدَّى أثر القبَّالاه بشكل واضح وصريح في كتابات الناقد الأمريكي المعاصر هارولد بلوم والفيلسوف الفرنسي ذي الأصل السفاردي جاك دريدا اللذين يؤسسان نقدهما الأدبي على أُسس غنوصية عدمية.
والواقع أن ذيوع القبَّالاه في الحضارة الغربية ليس مجرد تعبير عن تهويد المسيحية أو الحضارة الغربية، وإنما هي في واقع الأمر تعبير عن عنصر أكثر عمقاً وبنيوية، وهو شيوع التفكير الحلولي الكموني الذي يدور في إطار مادي تجسدي، بحيث يصبح اللوجوس كامناً في المادة لا متجاوزاً لها، ويصبح الإله متوحِّداً مع الطبيعة والتاريخ لا منزَّهاً عنهما. وهو توُّحد يتم تدريجياً إلى أن يتحقق تماماً في مرحلة وحدة الوجود التي يشحب فيها الإله ثم يموت ليبقى العالم المادي وحده واللوجوس (أو القوانين الطبيعية) الكامنة فيه. وهذا هو الإطار الذي حقَّق فيه المفكرون اليهود بروزهم، وهو إطار لا هو بالمسيحي ولا هو باليهودي، إطار معاد للتوحيد ومعاد للإله المنزَّه ويتجه نحو المادية والتجسد، وهو إطار معرفي إمبريالي علماني.
فلافيـوس ميثراديتـس (القرن الخامس عشر)
هو صمويل بن نسيم الفراج من صقلية. تَنصَّر وتَسمَّى باسم جوليلموس (أي الصقلي) علَّم العربية والعبرية والآرامية في إيطاليا وفرنسا وألمانيا، وكان أحد مُعلمي بيكو ديللا ميراندولا. عُيِّن أستاذاً في روما وقام بترجمة عدة كتب من العربية والعبرية واليونانية إلى اللاتينية (وضمن ذلك أجزاء من القرآن). كما ترجم لديللا ميراندولا بعض التفاسير اليهودية للتوراة (المكتوبة بالعبرية)، وكتاباً لموسى بن ميمون عن البعث، وبعض الأعمال القبَّالية. وألقى موعظة أمام البابا عن عذاب المسيح على الصليب مستخدماً المدراش وبعض المصادر اليهودية. يُعدُّ ميثراديتس شخصية مهمة في تعريف العالم الغربي بالقبَّالاه ووضع أسس القبَّالاه المسيحية.
بيكـو ديـللا ميرانـدولا (1463-1494)
مفكر إيطالي من عصر النهضة، ويُعدُّ أبا القبَّالاه. وُلد لأسرة إقطاعية كانت تحكم مقاطعة ميراندولا وكونكورديا في شمال إيطاليا. درس العربية والعبرية على يد مُعلمين يهود، فترجم له دبلميديجو كتاب ابن رشد ، وتعلَّم العربية والآرامية على يد فلافيوس ميثراديتس، الذي ترجم له أيضاً عدداً لا بأس به من الكتابات القبَّالية، والتي تُعدُّ المصدر الأساسي لكتـابات ديللا ميراندولا القبَّالية. وديللا ميراندولا له كتاب في القبَّالاه، يُسمَّى استنتاجات قبَّالية حسب رأيه الخاص.
قضى ديللا ميراندولا جزءاً كبيراً من حياته في فلورنسة حيث أصبح، مع فيشينو، عضواً في أكاديمية فلورنسة الأفلوطينية وهناك قابل سافونا رولا. أهم أعماله كتاب الخطب (1486) وأهم الخطب خطبة عن كرامة الإنسان (باللاتينية: أورايتو دي هومينيس ديجنيتاتي oratio de hominis dignitate).
وفي عام 1486، قدَّم ديللا ميراندولا 900 أطروحة استقاها من كل فروع المعرفة للدفاع عن المسيحية، ودعا إلى مناظرة عامة بشأنها، وكان كثير من الأطروحات ذا نزعة قبَّالية واضحة. وقد أحست الكنيسة أن هذه الأطروحات مُهرطقة فمنعت المناظرة. وتُعدُّ هذه الأطروحات البداية الحقيقية للقبَّالاه المسيحية. وفي كتابه عن كرامة الإنسان ضم 13 أطروحة من هذه الأطروحات التي رفضتها الكنيسة. وتقول إحدى الأطروحات: "ليس بإمكان علم أن يجعلنا أكثر إيماناً بألوهية المسيح أكثر من القبَّالاه".
ويظهر أثر القبَّالاه اليهودية كذلك في كتابه هيبتايلوس (1489) وهو تفسير من سبعة مستويات للخلق، وكتابات ديللا ميراندولا مليئة بالإشارات إلى مؤلفين يهود مثل عزرا وليفي بن جرشوم.
كان ديللا ميراندولا لا يؤمن بأن كل الأساطير والمدارس الفلسفية واللاهوتية تحتوي على جزء من الحقيقة العالمية (الطبيعية)، وتستحق الدراسة والدفاع عنها (وهو ما يُسمَّى باللاتينية: بريسكوس ثيولوجوس priscus theologus). ولذا، كانت كتاباته تشير إلى كثير من المصادر مثل كتابات الهرمسية والأورفية والقبَّالية وكتابات فيثاغورث وأرسطو وأفلاطـون وزرادشـت وابن رشـد وابن سـينا (وغيرهما من الفلاسفة العرب). وكان ديللا ميراندولا يرى أنها كلها غير متناقضة، ومن ثم كان يبذل قصارى جهده للتوفيق بينها كلها في ديانة طبيعية عقلية عالمية واحدة، ولذا كان اهتمام ديللا ميراندولا ينصب في واقع الأمر إما على الكتابات الحلولية بالدرجة الأولى (مثل النصوص الهرمسية) أو على الجوانب الحلولية في النصوص التي يدرسها.
وديللا ميراندولا، شأنه شأن فيشينو، كان يرى أن أفلاطون تعلَّم الحكمة من الكتابات الهرمسية والزرادشتية والأورفية وغيرها من المصادر الشرقية. فالأفلاطونية بالنسبة له (وكما هو الحال بالنسبة لكثير من كُتَّاب عصر النهضة) هي في واقع الأمر أفلوطينية غنوصية. وتوجُّهه الحلولي يُفسِّر اهتمامه العميق بالهرمسية وبالكتابات القبَّالية اليهودية. وقد لاحظ ديللا ميراندولا التشابه بين الكتابات الهرمسية والقبَّالاه في فكرة الخلق من خلال الكلمة، فزاوج بين هذه الكتابات والقبَّالاه، فبدأ بذلك التقاليد الهرمسية/القبَّالية والحلولية الكمونية الواحدية التي تجمع بين اليهودية والمسيحية وأية عقيدة توحيدية أو وثنية حديثة أو قديمة (وهذا هو جوهر فكرة اللاهوت القديم). ولكن ديللا ميراندولا هو أول عالم مسيحي يستخدم أدبيات القبَّالاه اليهودية وإطارها المعرفي في تفسير النصوص المقدَّسة وفي رؤيته للعالم. بل كان ديللا ميراندولا يؤمن بأن الكتابات القبَّالية تحتوي على معرفة سرية ثمينة، فالقبَّالاه في تصوُّره تنبع من روايات شفوية قديمة موغلة في القدم تعود إلى أيام موسى (كان الظن السائد في عصر النهضة أن موسى وهرمس هما شخص واحد أو أن أحدهما تعلَّم من الآخر)، ولذا فالقبَّالاه ـ بالنسبة له ـ كانت ذات حجية تماثل حجية كتابات هرمس وزرادشت والكتاب المقدَّس. بل يمكن القول بأن القبَّالاه، لأنها «أصلية»، أقدم من الكتاب المقدَّس. ولأنها سرية، بمعنى أنها تحمل المعنى الباطني بشكل مباشر، ولذا فهي أكثر حجية من الكتاب المقدَّس نفسه. وقد حاول ديللا ميراندولا أن يُبيِّن أنه لا يوجد أيُّ فارق واضح بين القبَّالاه واللاهوت المسيحي (شأنها في هذا شأن العهد القديم). وأنه يمكن النظر للقبَّالاه باعتبارها رؤية تُبشر بالعقيدة المسيحية وبرهاناً على صدقها. وقد وضع بذلك الأساس للقبَّالاه المسيحية التي دافع عنها كثير من المفكرين المسيحيين في القرن السادس عشر وبعد ذلك.

ويتضح أثر القبَّالاه في بيكو ديللا ميراندولا في تفسيره للعهد القديم، فهو يستخدم التفسيرات الرقمية (الجماتريا) ويستخلص المعنى الباطني من النص بأن يُحل كلمة محل أخرى، شريطة أن تكون قيمتهما الرقمية واحدة. كما أنه يعطي الكتاب المقدَّس معاني تتماثل مع أجزاء الكون المختلفة (وثمة تقابل بين العالم وجسد الإنسان في القبَّالاه، وهنا أصبح التقابل بين العالم والكتاب المقدَّس). ويُلاحَظ هنا كيف أن الحلولية أصبحت النقطة التي تلتقي فيها اليهودية بالمسيحية ويذوبان سوياً (مع أية تيارات وكتابات دينية أخرى) ويصبحان ديانة طبيعية علمانية واحدة!
وتظهر رؤية ديللا ميراندولا الحلولية في رؤيته للإنسان والكون، فالطبيعة بالنسبة له هي كلٌ متصل تسري فيه الحياة (كما هو الحال عند جيوردانو برونو)، وأجزاء الكون هي أجزاء من الكل الكوني وحسب ليس لها وجود مستقل، والإنسان جزء لا يتجزأ من الكون تسري فيه القوة الكونية.
هذه الرؤية الحلولية تترجم نفسها دائماً إما إلى تمركُّز حول الموضوع (تأليه الطبيعة) أو تمركُّز حول الذات (تأليه الإنسان). وهي تأخذ الشكل الثاني في حالة بيكو ديللا ميراندولا. فالإنسان، لأنه جزء من الكون تسري فيه القوى الكونية، قادر على اختراق كل طبقات السماء من خلال قواه ليصل إلى المصدر الإلهي لكل الحياة. وهو، لهذا، يستطيع إعادة صياغة العالم وإعادة صياغة ذاته، فالإنسان يمكنه أن يصبح ما يريد وأن يشغل المكان الذي يريد في الكون حسب مقدرته ومن خلال معرفته الغنوصية (كان ديللا ميراندولا يؤمن تماماً بالمقدرات السحرية للنصوص القبَّالية والغنوصية).
وينسـب ديلـلا ميراندولا إلى الإله هـذه الكلمـات في خطـابه لآدم: «إرادتك حرة لا تحدها حدود. أنت الذي ستُقرر لطبيعتك حدودها. أنت صاحب المقدرة على أن تهبط إلى أدنى أشكال الحياة، وأنت أيضاً صاحب المقدرة على أن ُتولَد من جديد في أسمى الأشكال العليا ـ الإلهية». أي أن الإنسان من خلال مقدرته يمكنه أن يصبح إلهاً. وهو المنطق الهيجلي الحلولي نفسه الذي يزيل أي حاجز بين المقدَّس والزمني أو الدنيوي.
وقد لاحظ كاسيرر أن إنسان ديللا ميراندولا ليس سليل آدم (أعطاه الإله المعرفة) وإنما هو سليل بروميثيوس الذي سرق النار (والمعـرفة) من الآلهـة، أي أنه سـوبرمان وليـس إنساناً. ولكن، في الواقع، يمكن القول بأن ما يظهر هو ثنائية السوبرمان (ما فوق الإنسان) والسبمان (ما دون الإنسان). فالذين يصلون إلى المصدر الإلهي ومصاف الآلهة ويتألهون ليس كل البشر وإنما نخبة من أصحاب العرفان، أما بقية البشر فيعيشون في الطبقات الدنيا وعليهم الإذعان والامتثال لأصحاب الغنوص. ويغيب في ثنايا كل هذا الإنسان الإنسان، الثنائي المركب.
باولوس ريسيوس ( ؟ - 1541)
مترجم من دعاة الحركة الإنسانية. وُلد في ألمانيا وعُمِّد في إيطاليا عام 1505. عُيِّن أستاذاً للفلسفة والطب، وطبيباً خاصاً للإمبراطور ماكسيمليان وأستاذاً للعبرية في جامعة بافيا. ونشر ريسيوس عدة كتب من بينها ترجمات لنصوص إسلامية ويهودية، وكذلك بعض الأعمال الأدبية ذات التوجه الصوفي. يُعَدُّ ريسيوس من مؤسسي القبَّالاه المسيحية. وقد استخدم النصوص القبَّالية اليهودية دليلاً على أن البشارات بالمسيح تُوجَد في تلافيفها وأن مفهوم التثليث المسيحي هو الآخر يوجد كامناً داخل رموزها.
يوحانيـس ريوشـلين (1455-1522)
مفكر ألماني وأحد رواد الفكر الإنساني الهيوماني والفكر الاستناري والدراسات العبرية، وأحد واضعي أُسس القبَّالاه المسيحية.
درس ريوشلين العبرية واللغويات العبرية ونشر دراسة في الموضوع، كما نشـر نصاً عبرياً/لاتينياً لبعـض المزامير وكتب تعليقاً عليه. وعُيِّن أستاذاً للدراسات اليونانية والعبرية في جامعات هولندا وألمانيا.
ورغم أن ريوشلين لم يكن مهتماً بمصير اليهود كبشر إلا أنه كان مهتماً بشكل كبير بالكتابات اليهودية. وقد دخل فيما يُسمَّى «معركة الكتب» وهو الصراع الذي دار بين بعض دعاة حرق التلمود والكتب العبرية، والتي تزعَّمها يهودي متنصر في كولونيا وسانده الرهبان الدومينكان. ورغم أن ريوشلين كان مهتماً أساساً بالقبَّالاه، إلا أنه رفض الدعوة إلى حرق التلمود « لأننا لا نعرف ما جاء فيه » ولأنه يجب ألا يُحرَق سـوى الكتب المعادية للمسـيحية بشـكل واضح مثل توليدوت يشو.
وقد بدأ اهتمام ريوشلين بالقبَّالاه تحت تأثير بيكو ديللا ميراندولا (الذي قابله في إيطاليا عام 1490) ومن خلال طبيب فريدريك الثالث اليهودي. وقد أحس ريوشلين بالتشابه بين العناصر الأفلوطينية في الكتابات القبَّالية وكتابات الفيلسوف الألماني نيكولاس من كوزا (أي أنه أحس بوجود منظومة حلولية كمونية في كل من القبَّالاه وفي كتابات الفيلسوف الألماني).
وإعجاب ريوشلين بالقبَّالاه، الذي لازمه طيلة حياته، هو سبب أساسي وراء حماسه للدراسات العبرية. فالقبَّالاه في نظره منهج لقراءة نصوص العهد القديم (لا يعرفه سوى اليهود) الهدف منه هو معرفة سر اسم الإله الأعظم، وهي معرفة إن توصَّل لها الإنسان وصل إلى معرفة تشير إلى ما وراء العهد القديم، أي إلى العهد الجديد، أي أنها قراءة تفكيكية تركيبية. وقد توقَّع ريوشلين، شأنه في هذا شأن بيكو ديللا ميراندولا، أن يجد مسيحية سرية في حالة جنينية داخل الكتابات القبَّالية. ومثل هذا الفهم للقبَّالاه يعطي شرعية للتوراة ويُبيِّن صدقها، ولكن هذا الصدق محدود إذ أنها تحوي داخلها ما يشير إلى غيرها. ومن هنا احترام ريوشلين للقبَّالاه، ومن هنا أيضاً رفضه التلمود باعتباره العقبة الكؤود أمام تنصير اليهود.
نشر ريوشلين في بازل عام 1494 كتاباً باللاتينية عنوانه الكلمة صانعة المعجزات وهو أول كتاب باللاتينية يُكرَّس لموضوع القبَّالاه. وهو حوار خيالي بين المؤلف وفيلسوف أبيقوري ويهودي. يؤمن ثلاثتهم بأن كل الأديان، رغم اختلاف رموزها، تكشف عن الحقيقة الأزلية الواحدة نفسها. ولكن ريوشلين يبيِّن لهم أن المسيحية هي التعبير الأدق عن هذه الحقيقة. ومن خلال خطاب ثيو صوفي يربط ريوشلين بين مفهوم التجسد المسيحي وفكرة أسماء الإله المقدَّسة. فيبيِّن أنه يمكن تقسيم التاريخ الإنساني إلى مراحل. أولاها مرحلة الآباء حيث كشف الإله للإنسان عن نفسه تحت اسم «شدَّاي» ثم كشف لهم عن نفسه في مرحلة موسى تحت اسم التتراجراماتون (اسم يهوه). وأما في فترة الخلاص (الفترة المسيحية) فهو ليس يهوه YHWH وإنما يهشوه YHSHWH وهو الاسم العبري ليسوع المسيح (وإضافة الشين للاسم لإبراز دلالته هي إحدى الطرق القبَّالية لتفسير النصوص للوصول لمعناها الخفي أو لتوراة الفيض مقابل توراة الخلق). وحينما يصبح «يهوه» هو «يهشوه» فإن الشيم هامفوراش أو اسم الخالق الذي يُحرِّم التفوّه به يصبح مباحاً للبشر النطق به. ويُلاحَظ أن هذا التقسيم الثلاثي لتاريخ العالم يقابل تقسيماً يهودياً حيث يُقسِّم تاريخ العالم إلى: فوضى ـ توراة ـ عودة الماشيَّح. ويقابل هذا أحد التقسيمات المسيحية الثلاثية التي ترى أن تاريخ العالم مقسَّم إلى: حكم الأب ـ حكم الابن ـ حكم الروح القدس (وهو تقسيم ترك أثره في جدل هيجل الثلاثي الإيقاع).
وقد ذهب ريوشلين إلى أن العبارة العبرية «بريشيت برا إلوهيم» تشير في واقع الأمر إلى «الابن والروح والأب» باعتبار أن أول حرف في كلمة «بريشيت» هو الباء التي تعادل كلمة «بن» أي الابن، والحرف الثاني في «برا» هو الراء، والتي تعادل كلمة «روح»، أما الحرف الأول في كلمة «إلوهيم» فهو الألف والتي تعادل كلم «الأب» (وهذه قراءة تتبع نظام النوطريكون، أي التفسير بالحروف الأولى). ويُركِّز الكتاب أساساً على أسماء الإله وتضميناتها السحرية وكيف أنها مجرد إعداد للمسيحيين، فكأن ريوشلين هنا هو الساحر (ماجوس magus) المسيحي يفك اسم الإله الأعظم. وبالفعل، ينتهي الكتاب بتحوُّل الأبيقوري واليهودي إلى المسيحية، ويُطلَب من اليهود ترك التلمود.

وقد تَعمَّق ريوشلين بعد ذلك في القبَّالاه ثم كتب كتاباً جديداً في الموضوع وهو في علم القبَّالاه (1517) وأهداه للبابا ليو العاشر. ومرة أخرى، تبنَّى المؤلف أسلوب الحوار الخيالي ولكنه هذه المرة بين يهودي ومسلم وممثل للفلسفة الفيثاغورثية. ويتوحد ريوشلين هنا مع اليهودي القبَّالي ويُبيِّن علاقة القبَّالاه بفكر نيكولاس من كوزا، كما يُبيِّن العلاقة بين الاتجاهات الثيوصوفية في القبَّالاه وكتابات أبى العافية وجيكاتيلا ويشير إلى أسماء الإله وتحولاتها وكيفية استخدامها في السحر. وقد أصبح هذا الكتاب من كلاسيكيات القبَّالاه المسيحية.
ورغم اهتمام ريوشلين باليهودية إلا أن اهتمامه باليهود هامشي، بل إنه اهتمام ينم عن العداء الشديد، فهو يهتم بهم بمقدار إمكان تنصيرهم. وقد طالب بعتق اليهود فهم ليسوا عبيداً وإنما «مواطنون مثلنا» ويجب أن يصبحوا مواطنين في الإمبراطورية والمدن الألمانية. ولكن كل هذا محدود برؤيته الكلية، فاليهود شعب بائس، بؤسه عقاب له على خطيئته الجماعية (ضد المسيح)، وهم مواطنون مشاركون لنا في مملكة الدنيا ولكنهم أعداء في مملكة الرب. وهذا الخطاب يتأرجح بين الخطاب الديني التقليدي والخطاب الحديث. ولكن حداثة خطاب ريوشلين تظهر حينما يتحدث عن «ضرورة « إصلاح اليهود » (شأنه في هذا شأن دعاة الاستنارة). وقد جعل حصولهم على الحقوق مرتبطاً بمدى إصلاحهم لأنفسهم. ولخص ريوشلين موقفه في العبارة اللاتينية «ريفورماندي سيو إكسبلندي reformondi seu expellendi» ومعناها: إما أن تصلحوا أنفسكم أو تُطردوا. والإصلاح يعني ابتعادهم عن الأعمال الهامشية مثل العمل بالربا الذي يجب أن يقلعوا عنه.
إلياهــو دا نــولا (1530-1602)
هو إلياهو بن مناحم دانولا، حاخام وعالم طبيعة إيطالي يهودي، وكان أحد كبار الحاخامات في إيطاليا في أواخر القرن السادس عشر. ساعد في ترجمة العهد القديم إلى الإيطالية وعُيِّن معلماً للعبرية في الفاتيكان، وفي هذه الفترة، تنصر وعُيِّن مراقباً في مكتبة الفاتيكان حيث قام بنسخ المخطوطات العبرية.
نشر دانولا كتاباً عن دلالة الرقم سبعة في العهد القديم وآخر عن رحلته من اليهودية إلى المسيحية حيث بيَّن أنه لم يعتنق المسيحية لتحقيق أي ربح مادي وإنما بسبب إيمانه بأن المسيحية هي الدين الأسمى. كما استخدم دانولا كُتب القبَّالاه اليهودية ومنهج الجماتريا ليبيِّن أن هذه الكتب نفسها تحتوي على نبوءات تبشر بالمسيح.
من اسهامات جـــــــــــــى

الثلاثاء، 30 نوفمبر 2010

الكابالا - القابالاه ( 3 )

قبَّالاة الزوهار والقبَّالاه اللوريانية  Zohar and Lurianic Kabbalah
تنقسم القبَّالاه إلى تيارين أساسيين، أو هي تيار أساسي واحد تفرَّع إلى عدة تيارات. أما التيار الأول فهو قبَّالاة الزوهار نسبة إلى كتاب الزوهار. وحينما تكون الإشارة إلى القبَّالاه بشكل عام، أو إلى القبَّالاه دون تخصيص، فإن المقصود عادةً هو قبَّالاة الزوهار («القبَّالاه النبوية» حسب تعبير جيرشوم شوليم)، وليس «القبَّالاه اللوريانية» نسبة إلى إسحق لوريا («القبَّالاه المشيحانية» حسب تعبير جيرشوم شوليم نفسه).
والواقع أن البنية الفكرية لقبَّالاة الزوهار هي البنية العامة للقبَّالاه قبل دخول الأفكار اللوريانية عليها. ويمكن الرجوع إلى مدخل القبَّالاه اللوريانية لمعرفة الفروق العامة بين التيارين. ومن أهم مفكري قبَّالاة الزوهار إبراهيم أبو العافية، وكذلك موسى كوردوفيرو آخر ممثلي قبَّالاة الزوهار، وهو أستاذ لوريا مؤسس القبَّالاه اللوريانية.
الزوهار
 «زوهار» كلمة عبرية تعني «الإشراق » أو «الضياء». وكتاب الزوهار أهم كتب التراث القبَّالي، وهو تعليق صوفي مكتوب بالآرامية على المعنى الباطني للعهد القديم، ويعود تاريخه الافتراضي، حسب بعض الروايات، إلى ما قبل الإسلام والمسيحية، وهو ما يحقق الاستقلال الفكري (الوهمي) لليهود، وكتابته بلغة غريبة، تحقق العزلة لأعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية. ويُنسَب الكتاب أيضاً إلى أحد معلمي المشناه (تنائيم) الحاخام شمعون بن يوحاي (القرن الثاني)، وإلى زملائه، ولكن يُقال إن موسى دي ليون (مكتشف الكتاب في القرن الثالث عشر) هو مؤلفه الحقيقي أو مؤلف أهم أجزائه، وأنه كتبه بين عامي 1280 و1285، مع بدايات أزمة يهود إسبانيا. والزوهار، في أسلوبه، يشبه المواعظ اليهودية الإسبانية في ذلك الوقت. وبعد مرور مائة عام على ظهوره، أصبح الزوهار بالنسبة إلى المتصوفة في منزلة التلمود بالنسبة إلى الحاخاميين. وقد شاع الزوهار بعد ذلك بين اليهود، حتى احتل مكانة أعلى من مكانة التلمود، وخصوصاً بعد ظهور الحركة الحسيدية.
ويتضمن الزوهار ثلاثة أقسام هي: الزوهار الأساسي، وكتاب الزوهار نفسه، ثم كتاب الزوهار الجديد. ومعظم الزوهار يأخذ شكل تعليق أو شرح على نصوص من الكتاب المقدَّس، وخصوصاً أسفار موسى الخمسة، ونشيد الأنشاد، وراعوث، والمراثي. وهو عدة كتب غير مترابطة تفتقر إلى التناسق وإلى تحديد العقائد. ويضم الزوهار مجموعة من الأفكار المتناقضة والمتوازية عن الإله وقوى الشر والكون. وفيه صور مجازية ومواقف جنسية صارخة تجعله شبيهاً بالكتب الإباحية وهو ما ساهم في انتشاره وشعبيته. والمنهج الذي يستخدمه ليس مجازياً تماماً، ولكنه ليس حرفياً أيضاً، فهو يفترض أن ثمة معنى خصباً لابد من كشفه، ويفرض المفسر المعنى الذي يريده على النص من خلال قراءة غنوصية تعتمد على رموز الحروف العبرية، ومقابلها العددي. وتُستخدَم أربعة طرق للشرح والتعليق تُسمَّى «بارديس»، بمعنى «فردوس» وصولاً إلى المعنى الخفي، وهي:
1
ـ بيشات: التفسير الحرفي.
2
ـ ريميز: التأويل الرمزي.
3
ـ ديروش: الدرس الشرحي المكثَّف.
4
ـ السود: السر الصوفي.
والزوهار مكتوب بأسلوب آرامي مُصطَنع، يمزج أسلوب التلمود البابلي بترجوم أونكيلوس، ولكن وراء الغلالة الآرامية المصطنعة يمكن اكتشاف عبرية العصور الوسطى. وهو كتاب طويل جداً، يتألف من ثمانمائة وخمسين ألف كلمة في لغته الأصلية.
والموضوعات الأساسية التي يعالجها الزوهار هي: طبيعة الإله وكيف يكشف عن نفسه لمخلوقاته، وأسرار الأسماء الإلهية، وروح الإنسان وطبيعتها ومصيرها، والخير والشر، وأهمية التوراة، والماشيَّح والخلاص. ولما كانت كل هذه الموضوعات مترابطة بل متداخلة تماماً في نطاق الإطار الحلولي، فإن كتاب الزوهار حين يتحدث عن الإله، فإنه يتحدث في الوقت نفسه عن التاريخ والطبيعة والإنسان، وإن كان جوهر فكر الزوهار هو تَوقُّع عودة الماشيَّح، الأمر الذي يخلع قدراً كبيراً من النسبية على ما يحيط بأعضاء الجماعات اليهودية من حقائق تاريخية واجتماعية. ويتحدث الزوهار عن التجليات النورانية العشرة (سفيروت) التي يجتازها الإله للكشف عن نفسه. كما يشير الكتاب إلى هذه التجليات باعتبارها أوعية أو تيجاناً أو كلمات تشكل البنية الداخلية للألوهية. وتُعَدُّ هذه الصورة (رؤية الإله لا باعتباره وحدة متكاملة وإنما على هيئة أجزاء متحدة داخل بناء واحد) من أكثر أفكار الزوهار جسارة، كما كان لها أعمق الأثر في التراث القبَّالي.
وقد ظهرت أولى طبعات الزوهار خلال الفترة من 1558 إلى 1560 في مانتوا وكريمونا في إيطاليا. وظهرت طبعة كاملة له في القدس (1945 ـ 1958) تقع في اثنين وعشرين مجلداً، وتحتوي على النص الآرامي يقابله النص العبري. وقد ظهرت ترجمات لاتينية لبعض أجزاء كتاب الزوهار (ابتداءً من القرن السابع عشر). كما تُرجم إلى الفرنسية في ستة أجزاء (1906 ـ 1911)، وإلى الإنجليزية في خمسة أجزاء (1931 ـ 1934). ومن أشهر طبعاته طبعة فلنا التي يبلغ عدد صحفاتها ألفاً وسبعمائة صفحة.
القــــبَّالاه النبويــــةProphetic Kabbalah
«القبَّالاه النبوية» هي قبَّالاة الزوهار. ومن أهم دعاتها إبراهيم أبو العافية، وآخر ممثليها هو موسى كوردوفيرو، أستاذ لوريا وإسبينوزا.
إبراهـيم أبو العافـية (1240-1292) (Abulafia (Abraham Ben Samuel
قبَّالي وُلد في إسبانيا، وانخرط في دراسة الشريعة والتلمود، وفي الدراسات والحسابات القبَّالية. وقد درس كذلك مؤلَّف ابن ميمون دلالة الحائرين ، ولكنه فسره وفق المنهج القبَّالي. سافر إلى فلسطين واليونان وإيطاليا، باحثاً عن أسباط يسرائيل العشـرة المفقودة. ولما بلغ أبو العافية الواحدة والثلاثين من عمره غلبته روح النبوة، وزَعم أنه وصل إلى معرفة الإله الحقيقي، وفي هذه الفترة قيل أيضاً إن الشيطان كان يشاغله عن اليمين بقصد فتنته وإرباكه، بيد أنه لم يشعر أنه بدأ يكتب بوحـي النبـوة إلا حـين بلغ الأربعين. وفي ذلك الوقـت، أي في عام 1280، عاد إلى إيطاليا حيث جذب عدداً كبيراً من العلماء اليهود الشبان الذين اتبعوا تعاليمه ثم وجدوا أن ثمة تشابهاً عميقاً بينها وبين المسيحية فتنصَّروا! وفي العام نفسه، قرر أبو العافية أن يقنع البابا بأن يتهوَّد، فقُبض عليه وصدر ضده حكمٌ بالقتل حرقاً ولكنه هرب من السجن. ثم ظهر مرة أخرى، بعد أربعة أعوام، في ميسينا (صقلية)، وأعلن أنه الماشيَّح. وقد تصدت له المؤسسة الحاخامية وفندت ادعاءاته. وربما كانت حروب الفرنجة الدائرة آنذاك تشكل السياق الدولي لدعاواه المشيحانية، كما كانت أزمة يهود إسبانيا المتزايدة تشكل السياق المحلي لدعواه. وقد كتب أبو العافية عدة مؤلفات عن القبَّالاه، وينسب إليه البعض تأليف الزوهار الذي ظهر في حياته (ولكن جيرشوم شوليم لا يتفق مع هذا الرأي). وقد أطلق شوليم مصطلح «القبَّالاه النبوية» على رؤية أبى العافية، فهو يرى أن النفس الإنسانية أصلها الإله، ولكن الحياة اليومية تستغرقها وتفرض الحدود والقيود عليها، وهي حدود وقيود لها قيمتها من حيث حفظها للفرد من أن يجرفه تيار الكوْن، ولكن كيما يتصل الإنسان بالتيار المقدَّس وبأصله الإلهي مرة أخرى، لابد من فك القيود وتجاوز الحدود. ويطرح الدكتور صبري جرجس في كتابه المهم التراث اليهودي الصهيوني والفكر الفرويدي السؤال التالي «ألسنا نرى الصلة بين هذه النظرية ونظرية الكبت وضرورة التحرر منه إذا شاء الإنسان أن يتخفف من متاعبه النفسية التي تحد من شعوره بالتحرر والانطلاق؟». ثم يستطرد قائلاً: وانطلاقاً من هذا، يصبح هدف رسالة أبى العافية هدفاً نفسياً وهو إماطة اللثام عن الروح وفك القيود التي تربطها. وقد قدَّم أبو العافية في هذا الصدد نظريته عن تركيب الحروف بغرض ملاحقة الطريق الداخلي، وتُعرَف باسم «حوخمة هاتسيروف»، أو «علم تشابك الحروف» الذي يستطيع القبَّالي بمقتضاه أن يدرك منه اسم الإله الذي يعكس المعنى الخفي للكون.
«
وثمة طريقتان لإبراهيم أبو العافية في التأمل بغية الوصول إلى ما يهدف إليه من تحرير الروح. الأولى هي الطريقة التفسيرية التي تستند إلى استخدام حروف الهجاء الأبجدية العبرية استخداماً حراً. وعند التأمل، كانت هذه الحروف تُفصَل ثم تُجمَع، وبعملية الفصل والجمع هذه كانت تظهر أفكار جديدة. وقد كان عند أبى العافية إحساس عميق بالمنطق الخفي للحروف، فترتيبها في نظره ليس مجرد عملية عرفية أو متعنتة، بل كان ترتيباً يتم وفقاً لقواعد عليا. ومن نتيجة حركات هذه الحروف، يستطيع المرء أن يصل إلى استبصار عميق بطبيعة الجوانب المقدَّسة ـ فهل من العسير علينا أن نرى، في نطاق هذا المفهوم، أن منطق عالم الإله الخفي عند أبى العافية قد أصبح منطق اللاشعور عند فرويد؟.
«
وقد كانت هذه الطريقة في التأمل تمهيداً للطريقة الثانية التي عُرفت باسم التجاوز عن طريق «القفز والإغفال». ووصف باكان نقلاً عن شوليم هذه الطريقة بقوله: سيُدهش القارئ المعاصر حين يرى وصفاً مفصلاً لطريقة كان أبو العافية وأتباعه يسمونها «القفز والإغفال» للانتقال من فكرة إلى أخرى. والواقع أن هذا منهج رائع في استخدام الترابط كوسيلة للتأمل. ولا ترادف هذه الوسيلة منهج التداعي الحر المتبع في التحليل النفسي مرادفةً كلية، ولكنها تتضمن الانتقال من فكرة ما إلى أخرى وفقاً لقواعد معيَّنة تتسم بالمرونة. وكل قفزة تفتح ميداناً جديداً له خصائصه، ويستطيع العقل داخل هذا الميدان أن ينتقل بحرية من فكرة لأخرى، أي أن القفز يربط بين عناصر من الأفكار الحرة والموجهة ويؤدي إلى نتائج عجيبة من حيث توسيع دائرة الشعور، كما أن هذا القفز يدفع على الفور بعملية خبيئة في العقل، أي أنه يحـررنا من سـجن الدائرة الطبيعية وينتقل بنا إلى حدود «الدائرة الإلهية». ثم يتساءل باكان بعد ذلك قائلاً: "ألا يُذكِّرنا هذا التقييم من قبل شوليم بمنهج أبى العافية بشــأن «الترابط الحر» في التحليل النفسي، من حيث تُعَدُّ هذه النشوة مع مضمونها الذي ينطوي، فيما يزعم لها، على إدراك الإله، هي الهدف من التأمل عند أبى العافية، ونشوة الاستبصار مع مضمونها الذي ينطـوي على معرفـة الذات هي الهدف من التحليل عند فرويد".
"
ويُعَدُّ المعلِّم القبَّالي أبو العافية شخصاً بالغ الأهمية بالنسبة لعملية التحويل التي ينبغي أن تحدث للشخص، وهذه العملية تحتاج إلى من يحركها من الخارج ومن يحركها من الداخل، والمعلم هو المحرك من الخارج. وفي حالة النشوة، يحدث نوع من التوحد مع المعلم يصبح بعد ذلك توحداً مع الإله وينتهي بتوحد سام مع الذات. وفي هذه الحالة، يكون التوحد قد تم أيضاً بين الإنسان والشريعة، ولعل هذا هو المقصود من قولهم إن الإنسان هو الناموس أو الشريعة. ويتساءل باكان أيضاً: ألا يذكرنا هذا بمعلم التحليل النفسي الذي يُعَدُّ شخصاً بالغ الأهمية في عملية التحويل التي لابد منها لمن يود ممارسة التحليل فيما بعد؟ أفلا يذكرنا ذلك أيضاً بنشوة الاستبصار التي تحدث أثناء التحليل التعليمي والتي يتم فيها نوع من التوحد مع المعلم الذي هو السبيل إلى معرفة الذات، أي السبيل إلى أن ينتقل الطالب من طور المران إلى طور الممارسة؟".
ومن المستبعد أن يكون فرويد قد درس فكر أبى العافية ومؤلفاته. ومع هذا، يجب أن نتذكر أن الفكر القبَّالي كان الفكر المسيطر على اليهودية في القرن التاسع عشر، وربما يكون فرويد قد انتظم في حضور محاضرات أدولف جيلينك الذي حرَّر أعمال أبى العافية. وفي الواقع، فإن أدولف جيلينك كان من أهم الحاخامات دارسي القبَّالاه، كما كان من أشهر الوعاظ في مدينة فيينا مسقط رأس فرويد والمدينة التي قضى فيها معظم حياته.
إسحق أبرابانيل (1437-1508) Isaac Abravanel
يهودي بلاط في إسبانيا. وهو مفسر للعهد القديم، ومؤلف لكتب ذات طابع فلسفي. وُلد في لشبونة، وكان أبوه مسئولاً عن خزانة الدولة فيها. وقد تلقى أبرابانيل تعليماً دنيوياً ودينياً كاملاً، ثم التحق بخدمة ألفونسو الخامس ملك البرتغال، الأمر الذي كان يعني أنه أصبح قريباً من النخبـة الحاكمة. ولكن الوضـع تغيَّر حينما اعـتلى جون الثاني العـرش، فقد اتبع سياسة القضاء على النبلاء والجيوب المختلفة للسلطة ليركز كل شيء في يد الدولة، وقد ثار النبلاء ضد هذه المحاولة. ويبدو أن أبرابانيل كانت تربطه علاقة بهؤلاء النبلاء، وخصوصاً أن قائد التمرد كان صديقاً له، ففر إلى طليطلة (إسبانيا) عام 1483، حيث أصبح خازن فرديناند وإيزابيلا عام 1484. وقد عمل هو وصديقه أبراهام سنيور في جمع الضرائب. كما قام الاثنان بتمويل الحروب ضد آخر الجيوب الإسلامية في غرناطة. وحينما سقطت غرناطة، صدر مرسوم طرد اليهود، ونُشر عام 1492. فحاول أبرابانيل أن يغيِّر القرار بتقديم هدية إلى فرديناند، ولكنها رُفضت وتم طرد اليهود. واستقر أبرابانيل (هو وأسرته) في البندقية عام 1503 حيث مات فيها.
ولأبرابانيل دراسات في العهد القديم، تتسم بشيء من الطابع العلمي والمنهجي، وتحولت فيما بعد إلى نقد العهد القديم. وقد حاول أن يضع النصوص المقدَّسة في سياق تاريخي. غير أن فكره الفلسفي لا يتسم بأي عمق أو أصالة. وفي السنوات الأخيرة من حياته، تبنَّى أبرابانيل رؤية صوفية، وزاد إيمانه بعقيدة الماشيَّح، ووضع ثلاثة كتب عن هذا الموضوع ( مصادر الخلاص، و خلاص الماشيَّح، و إعلان الخلاص) تُعَدُّ من أهم كتبه على الإطلاق، وتُوصَف أيضاً بأنها من أهم الكتب التي أشاعت الفكر المشيحاني وشجعت الحركات المشيحانية.
القــبَّالاه اللوريانيـةLurianic Kabbalah
أهم تطور حدث في داخل تاريخ القبَّالاه هو ظهور القبَّالاه اللوريانية (نسبة إلى إسحق لوريا). ولكن لا يمكن إغفال موسى كوردوفيرو الذي ساهم في صياغة أفكارها الأساسية (وقد تأثر إسبينوزا فيما بعد بأفكاره). ويمكن القول بأن القبَّالاه اللوريانية لا تختلف في أساسياتها عن قبَّالاة الزوهار، إذ أن البنية الحلولية القبَّالية العامة كامنة في القبَّالاه اللوريانية كمونها في قبَّالاة الزوهار. ولكن، مع هذا، يمكن أن نلخص بعض الاختلافات الأساسية بينهما فيما يلي:
1
ـ قبَّالاة الزوهار تعنى بأسرار الخلق، أي ببداية الكون، بينما تعنى القبَّالاه اللوريانية أساساً بالخلاص وبالنهاية. وينبع اهتمام قبَّالاة الزوهار بأسرار الخلق من اهتمامها بالخلاص المشيحاني بالنهاية، ولذا فهي تتناول البدايات كي تفسر النهايات.
2
ـ أسطورة الخلق في القبَّالاه اللوريانية أكثر تعقيداً وتناقضاً منها في قبَّالاة الزوهار.
3
ـ والاختلاف الأسـاسي هـو أن القبَّالاه اللوريانية تربط البداية بالنهاية، كما ربطت الباطن بالتاريخ والتأمل بالنزعة المشيحانية.
4
ـ الصورة المجازية الأساسية في قبَّالاة الزوهار هي الجنس، ولكنها في القبَّالاه اللوريانية تتمثل في كل من الجنس والنفي.
وتبدأ أسطورة الخلق في قبَّالاة الزوهار بفيض الإله الخفي، ولكنها في القبَّالاه اللوريانية تبدأ بعملية «تسيم تسوم» التي يمكن أن تُترجَم حرفياً بكلمة «انكماش» أو «تركُّز». ولكن يُستحسن تأدية معناها بتعبير «انسحاب نتج عنه تركُّز». فالإله المتخفي (الإين سوف) ينكمش داخل نفسه ليخلق فراغاً روحياً كاملاً. ويمكن تفسير هذا الانسحاب بأنه شكل من أشكال النفي، كأن الإله ينفي نفسه بنفسه إلى داخل نفسه، بعـيداً عن وجوده الكلي. وقد نتج عن هذا الانسحاب ميلاد الشر، فالحكم الصارم (الحدود والقيود التي تُفرَض على الأشياء التي ستنبع منها الأوامر والنواهي والتشريعات) كان قبل الانكماش جزءاً من كل، قطرةً في المحيط، ولكنه بعد عملية الانسحاب يتبلور ويصبح هو المحور. ثم يرسل الإين سوف في الفراغ شعاعاً ودروباً من نوره الذاتي وهي التجليات النورانية العشرة (سفيروت)، وهي مرحلة الفيض الإلهي على الكون (وتُعرف في العبرية باسم «أتسيلوت») التي أدَّت إلى ظهور آدم قدمون (الإنسان الأصلي)، وهو غير آدم أبى البشر. ويُلاحَظ أن الإنسان الأصلي في قبَّالاة الزوهار هو رمز لبناء التجليات ككل. أما عند لوريا، فهو يظهر قبل التجليات، ثم تخرج أشعة النور الإلهي من عيون الإنسان الأصلي وأذنيه وأنفه وفمه. وهذا الضوء الخارجي الذي انبثق من الإنسان الأصلي، آخذاً شكل شرارات، كان من المفترض جمعه في أوعية (كليم) من ضوء تتخذ أشكالاً تتناسب مع عملها في مرحلة الخلق. ولكن هذه الأوعية تحطمت، حسب رؤية لوريا، أثناء ملئها. ويعود هذا إلى أن الضوء الإلهي كان أقوى من أن تتحمله الأوعية فتحطمت، الأمر الذي أدَّى إلى تشتت الشرارات الإلهية وتبعثرها. ويُشار إلى هذه الواقعة بمصطلح «حادثة تَهشُّم الأوعية» (شفيرات هكليم) وهي الأخرى حادثة نفي. وإذا كان الانكماش (تسيم تسوم) هو نفي من خلال الانسحاب، فإن النفي هنا يتم من خلال الانتشار والتشتت. وقد سادت الفوضى واختلط النور والظلام، والروحاني والمادي، وهكذا دخل الشر والظلام إلى العالم. وقد عاد كثير من الشرارات إلى مصدرها الأصلي، ولكن نحو 288 شرارة التصقت بشظايا الأوعية المهشمة، وأصبحت هذه الأجزاء هي القشرة الخارجية (قليبوت)، أي قوى الشر التي أحاطت بالشرارات الباقية وحبستها.
ومنذ ذلك الوقت الذي حدث فيه هذا التهشُّم، لم يَعُد في الكون أي شيء كامل متكامل. فالنور الإلهي الذي كان يجب أن يستمر في مكان مخصص له، أي في الأوعية التي صنعها الإله، لم يَعُد في مكانه الصحيح لأن الأوعية تحطمت. وتظهر الخطة الإلهية للخلاص من خلال صور تُسمَّى «برتسوفيم» (حرفياً: «الوجوه» أو «السيمياء»، أي «القسمات» أو «ملامح الوجه») وهي مقابلة للتجليات النورانية العشرة (سفيروت) في قبَّالاة الزوهار ولكنها تأخذ هنا شكلاً أكثر بشرية وعددها خمسة:
1
ـ أريخ أنبين (عبارة أرامية وتعني حرفياً: «ذو الأنف الطويل» أي «الصبور» أو «المتحمل» أو «الذي عانى كثيراً» باعتبار أن الأنف دليل على الصبر)، وهو يقابل التجلي النوراني الأول «الكيتر» أو «التاج» في قبَّالاة الزوهار.

2، 3
ـ أبا وأما (الأب والأم). وهما يقابلان التجليين الثاني والثالث. وهما النمط الأعلى لهذا الزواج المقدَّس الذي يُعَدُّ نمطاً لكل وحدة فكرية وجنسية فيما بعد (ولنلاحظ هنا الأثر العميق للعقيدة والرموز المسيحية ولتواتر الصورة المجازية الجنسية في النسق الحلولي). وهذا التزاوج يزداد عمقاً بصعود الـ 228 شرارة التي تساقطت مع الأوعية المهشمة، والتي بعودتها إلى رحم البيناه تصبح قوة تبعث الحيوية، ولذا تُسمَّى «المياه الأنثوية» (ماييم نقفين).
4
ـ زعير أنبين (عبارة أرامية وتعني حرفياً: «ذو الوجه القصير»، أي «الذي لا يطيق صبراً»، أو «نافد الصبر»). وهو عكس «أريخ أنبين» ويقابل التجليات الستة التي ترد بعد الثلاثة الأولى من الجبوراه حتى اليسود.
5
ـ نقيفاه دي زعير (عبارة أرامية وتعني حرفياً: «أنثى زعير» أي «أنثى نافد الصبر»). وهي تقابل التجلي العاشر أو الشخيناه.
وتتخذ الذات الإلهية من خلال هذه القوى الخمس شكلاً محدداً، وتؤدي وظيفة محددة. والتجلي الأساسي للإين سوف يحدث من خلال زعير أنبين الذي وُلد من خلال اتحاد الأب والأم، ثم يكبر ليتزوج من الشخيناه ليُولِّد اتحاداً ووئاماً بين العدل والرحمة في الذات الإلهية. وتُلاحَظ مرة أخرى أصداء العقيدة المسيحية.
وتمثل هذه القوى في الحقيقة العملية التي يلد الإله بها نفسه. وحسب رؤية لوريا، كانت عملية جمع الشرارات (أي ولادة الإله واكتماله) على وشك الاكتمال حين خلق الإله آدم (أبا البشر) ليساعده في الجهد المبذول لاستعادة النظام والكمال ولهزيمة القوى الشريرة الشيطانية. وكان من المفترض أن يقوم آدم بالخطوات الأخيرة، ولكن خطيئته ومعصيته للإله أوقفت العملية، ونجم عن ذلك انتشار فوضى في الأرض تُماثل الفوضى الناجمة عن تَهشُّم الأوعية في الأعالي. فآدم، حينما خلقه الإله، كان يحوي كل أرواح البشر التي كانت توجد في حالة التصاق بالإله، وبسقوطه انفصلت الأرواح عن جذورها وتبعثرت ودخلت الأجسام المادية، وجاء الموت والشر والعالم وانحرف كل شيء عن موضعه، وأصبحت كل المخلوقات في حالة شتات دائم (جالوت)، وهي حالة مستمرة تنسحب على الكون كله وعلى الخالق نفسه الذي تبعثرت شراراته وتناثرت مرة أخرى. وقد سقطت الشخيناه ضمن ما سقط من شرارات. وما دامت الشرارات الإلهية لم تُجمَع، فإن الإله سيظل مجزأ غير مكتمل وغير متوحِّد مع نفسه.
وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن إصلاح هذا الخلل ورأب هذا الصدع، لابد أن نؤكد فكرة التقابل القبَّالية، وهي تقابل كل الأشياء واللحظات نتيجة توحُّدها النهائي. فالعالم العلوي يشبه العالم السفلي، والإله يشبه مخلوقاته، وعملية الخلق والتبعثر هي مقلوب عملية الخلاص، وطريق النهاية هو طريق البداية. ويقابل عملية الفيض الإلهي عمليات كونية مماثلة تغمر أربعة عوالم مختلفة. والنفس البشرية تشبه الذات الإلهية، ومستوياتها تشبه التجليات المختلفة، ولحظة التشتت الإلهية تشبه لحظة التشتت الفردية، ونفي الشخيناه يشبه نفي الشعب (ويُلاحَظ أن فكرة التقابل تُسقط فكرة الزمان والتتالي والاختلاف تماماً، فهي فكرة هندسية دائرية تحوِّل الزمان إلى ما يشبه المكان والبدايات تشبه النهايات). كما أن إصلاح الخلل الكوني، وعودة كل شيء إلى مكانه، وإنهاء حالة النفي الكونية، وخلاص الإله بل لادته ووجوده من جديد، هي عملية يُطلَق عليها الإصلاح (تيقون)، وهي عملية تخليص الشرارت الإلهية المبعثرة من اللحاء أو المحارات (قليبوت). وهي عملية كونية تاريخية باطنية شاملة يشارك فيها الإنسان ولكنها تعتمد بالدرجة الأولى على جماعة يسرائيل، فاليهودي الذي يعرف التوراة ومعناها الباطني (وينفذ الأوامر والنواهي ويتلو الصلوات) بوسعه أن يسرع بعملية الإصلاح (تيقوُّن)، أي عملية ولادة الإله، كما أن بوسعه أيضاً أن يوقفها إذا هو أهمل تنفيذ الأوامر والنواهي وإقامة الصلوات. وهذا من الممكن إنجازه نظراً لتقابل العالم السفلي والعالم العلوي، والتأثير في العالم العلوي من خلال أفعال يقوم بها الإنسان (اليهودي) في العالم السفلي. لكن عملية الإصلاح تدريجية، وهي تُتوَّج بظهور الماشيَّح وبعودة جماعة يسرائيل من المنفى إلى فلسطين، ومن هناك فإنه سيحكم العالم، وستسود جماعة يسرائيل على العالمين، هذا هو الجانب التاريخي. وإذا كانت حالة النفي مرتبطة بالانكماش والحدود والفرائض والانسحاب، فإن حالة التيقون مرتبطة بالتحرر الكامل من الحدود، كما أنها مرتبطة بالترخيصية والإباحية الكاملة، وهذا هو ما كان يفعله المشحاء الدجالون، وهو الجانب النفسي أو الأخلاقي للإصلاح (تيقون). وسينتهي التيقون بأن يُجمِّع الإله ذاته ويتوحد مع نفسه بعد تجميع الشرارات المبعثرة كما أنه سوف يتوحد مع شعبه (وسوف نكتشف أن الشعب اليهودي هو في واقع الأمر الشرارات الإلهية المشتتة). ومعنى هذا أن اليهود هم جزء من الإله، فهم الإله أو على الأقل أحد تجلياته. وهم إلى جانب ذلك الأداة التي تسترد بها الذات الإلهية وحدتها، فهم بذلك الأداة والغاية. وهم أيضاً سبب النفي (بذنوبهم)، وهم وسيلة العودة (بصلاحهم وتقواهم)، فاليهودي هو مركز الكون وسيده. وهكذا نُلاحظ دائرية النسق القبَّالي الحلولي المغلق.
ويُلاحَظ هنا كيف ارتبط التأمل في المعنى الباطني للتوراة، وكذلك تلاوة الصلوات وأداء الفرائض (وكلها أمور فردية ذاتية باطنية)، بحدث كوني مثل ولادة الإله، وكيف تتوحد ذاته من خلال حدث تاريخي هو ظهور الماشيَّح وعودة جماعة يسرائيل. وقد انعكس كل هذا مرة أخرى على عالم الفرد والباطن، بالترخيصية وإبطال الحدود والشرائع في العصر المشيحاني، فيتداخل الكون والإله والإنسان والزمان وكل شيء.
ومما يجدر ذكره أن تجربة يهود إسبانيا (طردهم منها) تشكل الصور المجازية الأساسية في القبَّالاه اللوريانية، فالنفي والتبعثر والتشتت كانت حقائق أساسية في حياتهم، وكان الاهتمام بالباطن دون الظاهر سمة أساسية لتجربة المارانو. وقد تبدَّى فقدانهم السلطة، مع رغبتهم الحادة فيها، في فكرة مركزية اليهود في الكون واعتماد الإله عليهـم، وتوقعهـم وصول الماشيَّح الذي سيجعلهم أسياد الأرض.
الانكماش )تسيم تسوم) Tsimtsum
لفظة «الانكماش» هي الترجمة العربية لكلمة «تسيم تسوم»، وهي كلمة وردت في المدراش لتشير إلى عملية انكماش الخالق حتى يدخل قدس الأقداس في الهيكل، وهذا هو أصلها الحلولي. ولكن إسحق لوريا استخدم الكلمة بطريقة مغايرة أو بالأحرى عمَّق مدلولها الحلولي. فالانكماش عنده هو العملية التي من خلالها ينكمش الخالق إلى نقطة داخل نفسه (الوسط) وهو انكماش يَنتُج من تركُّز (وهذا بخلاف الانكماش في المدراش حيث ينكمش الخالق ليدخل في مكان آخر غير ذاته) ثم تَصدُر عنه التجليات النورانية العشرة بعد ذلك. ومن منظور لوريا، كان الخالق يملأ الوجود باعتبار أن الذات الإلهية لا نهائية ولا تقبل التجزئة، ولا يوجد مكان لا يملؤه الحضور الإلهي. وهذه الذات لا تسمح بوجود شيء آخر، ولتتم عملية الخلق كان لابد أن تنكمش هذه الذات. ولكن هناك رأياً آخر يذهب إلى أن الانكماش هو محاولة، من جانب الخالق، لا لخلق فراغ وحسب وإنما لتطهير ذاته التي كانت تضم عناصر غير إلهية. ومن ثم، فإن الذات الإلهية لم تكن قط لا طاهرة ولا متوحدة، كما أن عملية توحد الذات الإلهية وتخليصها مما فيها من أدران إن هي إلا عملية تاريخية تُستكمَل في نهاية التاريخ. والواقع أن هذه فكرة حلولية متطرفة يعقبها حادث تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم)، وأخيراً الإصلاح (تيقون).
ويمكن تفسير بعض مصطلحات دريدا ما بعد الحداثية في ضوء فكرة تسيم تسوم، فالانكماش والاختفاء هو الغياب الكامل (الذي يعقب الحضور الكامل أو حالة البليروما في المنظومة الغنوصية) وصدور التجليات النورانية هو بداية الحضور.
تهشم الأوعية (شفيرات هَكليم)Chevrat Hakelim
«تَهشُّم الأوعية» هي ترجمة عبارة «شفيرات هَكِّليم» العبرية (من فعل «شافار» بمعنى «حطَّم»)، وتَهشُّم الأوعية مفهوم أساسي في القبَّالاه اللوريانية. وتقع حادثة تهشُّم الأوعية أثناء عملية الخلق، حينما تخرج من عيون الإنسان الأصلي أشعة النور الإلهي التي تأخذ شكل شرارات كان من المفترض أن تُجمَع في أوعية (كليم). ولكن الأوعية كانت أضعف من أن تتحمل هذا النور، فتهشَّمت وتبعثرت. والحادثة رمز شتات الشعب اليهودي، وهي فكرة حلولية مغالية تربط بين الوجود الإلهي والشعب. وتدور القبَّالاه اللوريانية حول ثلاث أفكار: الانكماش (تسيم تسوم)، وتهشُّم الأوعية، وأخيراً الإصلاح (تيقون). وهو تكوين ثلاثي يشبه تكوين: الخطيئة ـ النفي ـ الإصلاح والعودة.
الشرارات الإلهية )نيتسوتسوت) Nizozot
«الشرارات الإلهية» هي الترجمة العربية للكلمة العبرية «نتسوتسوت». والمصطلح تعبير قبَّالي يشير إلى الشرارات الإلهية التي تُحبَس في المادة بعد حادثة تهشُّم الأوعية حسب القبَّالاه اللوريانية.
إصلاح الخلل الكوني (تيِّقون) Tikkun
«إصلاح الخلل الكوني» هي الترجمة العربية لكلمة «تيقون»، وهي كلمة عبرية معناها «إصلاح». وتتحدد عملية الإصلاح بعد تخليص الشرارات الإلهية المبعثرة بعد انكماش الإله (تسيم تسوم) وبعد حادث تهشُّم الأوعية. والهدف من عملية الإصلاح أن يصل الإله إلى وحدته ويعم الخلاص العالم، وهي عملية كونية تاريخية شاملة يشارك فيها الجنس البشري بأسره، ولكنها تعتمد بالدرجة الأولى على جماعة يسرائيل. ويضمر المصطلح فكرة أن الذات الإلهية لا تشكل وحدة كاملة لا في الماضي ولا في الحاضر، وأنها ستصل إلى هذه الوحدة في المستقبل من خلال جهد الإنسان وهذه فكرة حلولية متطرفة.
موسـى كـوردوفيرو (1522-1570) Moses Cordovero
عالم قبَّالي من أصل إسباني. تتلمذ على يد يوسف كارو، ويُعَدُّ حلقة الوصل بين قبَّالاة الزوهار (التأملية) والقبَّالاه اللوريانية (المشيحانية) إذ كان لوريا تلميذاً لكوردوفيرو. أهم أعماله برديس ريموُّنيم (حديقة الرمّان)، وهو عرض واف وواضح لتعاليم القبَّالاه يتناول فيه العلاقة بين اللامحدود والمحدود، والتجليات النورانية العشرة، وعلاقة الإله بالكون. وقد كتب موسى كوردوفيرو ثلاثين كتاباً آخر، من بينها تعليق على الزوهار، أحرز ذيوعاً بين أعضاء الجماعات. وهو يُعَدُّ آخر ممثل لقبَّالاة الزوهار التأملية.
ولم يبالغ كوردوفيرو في تأكيد أهمية الرموز والأساطير القبَّالية، وخصوصاً العناصر الجنسية وأسطورة قوة الشر (سترا أحرا). وتَوصَّل إلى أن الذات الإلهية خالية تماماً من الشر، وأن جذور الشر توجد في الكون، في اختيارات الإنسان الأخلاقية.
ويبدو أن إسبينوزا قد استقى رؤيته الحلولية للإله من كتابات كوردوفيرو، فقد كتب لصديقه أولندبرج أنه استقى أفكاره من فيلسوف يهودي قديم (وكان يعني كوردوفيرو). ويمكن هنا أن نرى أن الحلولية اليهودية تتسلسل من التلمود إلى القبَّالاه، ومن القبَّالاه تتفرع إلى لوريا وشبتاي تسفي، وإلى إسبينوزا والعلمانية.
إسحق لوريا (1534-1572) Isaac Luria
ويُعرف لوريا أيضاً باسم «هاآري هاقدوش» أي «الأسد المقدَّس». ويشار إليه أيضاً باسم «الإشكنازي»، واختصار اسمه هو «آري». وُلد إسحق لوريا في القدس لأب إشكنازي يعمل بالتجارة وأم سفاردية. درس في مصر التلمود واشتغل بالأعمال التجارية، لكن الدراسات القبَّالية استغرقته تماماً. ويُقال إنه اعتكف في جزيرة الروضة في المنيل لمدة سبع سنوات حيث تأمل في الزوهار ودرس أعمال كوردوفيرو وعاش حياة الرهبان. وفي عام 1569، استقر لوريا، هو وأسرته في صفد حيث تجمعت حوله مجموعة من الطلبة والحواريين والمريدين، ومات في هذه المدينة بعد عامين. ولم يكن لوريا مفكراً منهجياً، وإنما كان متصوفاً أضاف مجموعة جديدة كاملة من الصور والرموز إلى التراث القبَّالي، وذلك من خلال تفسيراته لكتاب الزوهار التي أعلن أنها كشف أتاه به إلياهو. ولم يبق مما كتب لوريا سوى بعض مؤلفات غير مهمة لا تتضمن أفكاره الجديدة، لأنه نقل القبَّالاه اللوريانية لطلبته شفهياً، فقاموا بتدوينها ثم تداولها الناس. وبرغم وجود اختلافات كثيرة بين الكتابات التي دوَّنها تلاميذه، فإن الموضوع الأساسي يظل واحداً وهو تأكيد فكرة الخلاص والعودة، الأمر الذي يعكس النزعة المشيحانية التي بدأت في صفد وغيرها من المدن في القرن السادس عشر.
وقـبل أن يبدأ في نشـر تعاليمه الصـوفية، كان لوريا يقرض الشعر. ويضع بعض القبَّاليين أقواله في مرتبة أعلى من الشولحان عاروخ (كتاب اليهودية الأرثوذكسية الأساسي). ومن أهم تلاميذ لوريا: يوسف بن طابول، وإسرائيل ساروج، وحاييم فيتال، أولئك الذين أشاعوا آراء أستاذهم.
حـاييم فـيتال (1543-1620) Hayyim Vital
يهودي من أصل إيطالي، وأحد أتباع إسحق لوريا في صفد في آخر سني حياته (1570 ـ 1572). وبعد موت لوريا، أعلن فيتال أنه هو وحده المحتفظ بتعاليمه. وقد كان فيتال يتفاخر أمام تلاميذه بأن روحه هي روح الماشيَّح بن يوسف، وأنها معصومة من خطيئة آدم. وقد نُشرت مذكراته عن أسرار القبَّالاه اللوريانية، الأمر الذي أدَّى إلى ذيوعها، ولولاه لما أحرزت القبَّالاه اللوريانية هذا الانتشار، ذلك أن لوريا نفسه لم يترك أية نصوص مكتوبة إذ كانت الدروس التي يلقيها شفهية.
يوسـف بـن طـبول (1545- بداية القرن 17) Joseph Ibn Tabul
قبَّالي، من أهم تلاميذ إسحق لوريا. جاء من المغرب (ولذا كان يُقال له يوسف المغربي)، وانضم إلى حلقة لوريا في صفد (عام 1570) حيث مكث بعد موت معلمه. ونشأت بينه وبين حاييم فيتال بعض المشـاحنات، فذهـب إلى مصر واسـتقر فيها بضـع سنوات في شيخوخته. ويُعَدُّ شرحه لأفكار لوريا من أهم مصادر القبَّالاه اللوريانية.
إسرائيل سروج (؟ -1610) Israel Sarug
قبَّالي مصري، وُلد لأسرة حاخامية قبَّالية. تعرَّف إلى إسحق لوريا أثناء وجوده في مصر، ودرس تعاليمه. واطلع سروج على كتابات بعض أتباع إسحق لوريا (حاييم فيتال ويوسف بن طابول). وفي إيطاليا، نشر سروج تعاليم القبَّالاه اللوريانية بين عامي 1594 و1600، ومات عام 1610.
يعقـوب أبو حصـيرة (1807-1880) Jacob Abu-Hasira
هو يعقوب (الثاني) ابن مسعود. من علماء القبَّالاه، وله عدة مؤلفات عن التوراة والقبَّالاه نُشرت كلها في القدس. سافر من المغرب إلى فلسطين، وفي الطريق، نزل دمنهور حيث عمل إسكافياً، وبدأت علاقته تتوطد مع اليهود المقيمين فيها وجمعته صداقة حميمة بأحد التجار من أعضاء الجماعة اليهودية. وبعد وفاته، صرح صديقه بأن ابن مسعود توقَّع موته قبل أن يموت بأيام، وهو ما أحاط موته بهالة أسطورية. ويُقال أيضاً إن أحد أصدقائه أراد نقل جثمانه إلى الإسكندرية، وأثناء نقل الجثة هطلت الأمطار بشدة، ففُسِّر هذا بأنه تعبير عن رغبته في أن يظل مدفوناً بقرية ديمتوه القريبة من دمنهور. ويُقال إنه سُمِّي «أبا حصيرة» لأنه أثناء سفره بحراً إلى سوريا تحطمت السفينة التي كانت تقله وهوت إلى القاع ومات كل من عليها إلا يعقوب الذي استطاع أن يطفو فوق حصيرة على سطح الماء حتى وصل إلى سوريا. ومن الواضح أن هذا تفسير شعبي أسطوري لأن اسم الأسرة يعود إلى القرن السادس عشر الميلادي. وهو من كلمة «حصير» العبرية وهي من كلمة «حضرة» أو بلاط الملك. و«حصيرة» على هذا تدل على أنه كان من عائلة مُقرَّبة من السلطان بالمغرب.

وقد بنى اليهود له ضريحاً في قرية ديمتوه وكانوا يذهبون إليه للتبرك به، واتخذوا من مقبرته ما يشبه حائطاً جديداً للمبكى حيث يُقام الاحتفال بمولده كل عام. وبعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، سمحت الحكومة المصرية للإسرائيليين بزيارة المقبرة، ويأتي لها مئات القاصدين من أنحاء العالم، وبالذات إسرائيل.
وقد هاجرت أسرة أبى حصيرة من المغرب إلى إسرائيل، ومن بين أفرادها كبير حاخامات الرملة وأحد الوزراء وهو أهارون أبو حصيرة مؤسس حزب تامي الذي يعبِّر عن مصالح اليهود المغاربة.
أدولـف جيلـينك (1820-1893)Adolph Jellinek
واعظ وعالم يهودي عاش في فيينا. وُلد بالقرب من مدينة برودي، وتعلم تعليماً دينياً تقليدياً. وقد تشبَّع بالحلولية اليهودية، وبدأ يقبل علمنة اليهودية إلى أن تحوَّل لليهودية الإصلاحية، وعُيِّن واعظاً في معبد إصلاحي. وكما هو الحال في المنظومات الحلولية، تتداخل الحدود وتتآكل وتتساوى كل الأمور والعقائد. وقد أسَّس، هو وبعض الوعاظ المسيحيين، كنيسة عالمية تقبل عضوية اليهود والمسيحيين. وقد كان جيلينك عضواً قيادياً في مجلس رابطة الدفاع عن المواطنين الألمان في البلاد السلافية، أي أنه كان يدافع عن فكرة الشعب العضوي الذي لا يتغيَّر انتماؤه بتغير المكان، وهي فكرة حلولية أصبحت فكرة محورية في كلٍّ من النازية والصهيونية بعد ذلك. وفي عام 1857، عُيِّن واعظاً في أحد معابد فيينا.
وفي عام 1862، أسس جيلينك أكاديمية بيت هامدراش حيث كان هو ومفكرون يهود آخرون يلقون المحاضرات. وكان جيلينك يُعَدُّ من أكثر الوعاظ صيتاً في عصره، وقد نشر حوالي مائتي موعظة نُشرت ترجمات لها. وتتسم هذه المواعظ بأنها كانت تتناول قضايا معاصرة من خلال مناهج التفسير التلمودية الوعظية القصصية والمدراشية.
وكان جيلينك شديد الاهتمام بالقبَّالاه، فترجم دراسة عنها إلى الألمانية، وكتب عدة دراسات من أهمها الفلسفة والقبَّالاه ، كما حرَّر أعمـال إبراهيم أبى العـافية حيث بيَّن أن دي ليون هو مؤلف الزوهار. وحرَّر جيلينك كذلك معجماً بالمصطلحات الأجنبية في التلمود والمدراش والزوهار، وأعمال ابن فاقودة. وقد نشر جيلينك تسعة وتسعين موعظة (مدراش) قصيرة في ستة أجزاء تُعَدُّ في غاية الأهمية لدراسة القبَّالاه، وله دراسات أخرى تاريخية. وكان جيلينك أحد المسئولين عن مشاريـع البارون دي هـيرش التوطـينية، وقد تنـصَّر ابن جـيلينك بعد موته.
ويذكر الأستاذ الدكتور صبري جرجس في مؤلفه المهم التراث اليهودي الصهيوني والفكر الفرويدي أن عظات جيلينك هي الرابطة بين أبى العافية وفرويد. ويطرح الدكتور جرجس السؤال التالي: إذا ما نظرنا إلى التشابه الكبير بين طريقة تفكير أبى العافية ومنهجه في التفسير من ناحية، ومنهج الترابط ومفاهيم اللاشعور والتوحد والاستبصار عند فرويد من ناحية أخرى، فهل من المحتم أن يكون فرويد قد اطلع على التراث القبَّالي كما وضعه أبى العافية نصاً وتفصيلاً ونقل عنه؟ والجواب المرجح الذي يطرحه الدكتور جرجس أنه "برغم تضلع فرويد في اليهودية وإلمامه إلماماً شاملاً وعميقاً بالتوراة، ورغم تعمقه في دراسة ما ظهر من مبادئ اليهودية وما خفي، فليس من الحتمي أن يكون فرويد قد اطلع على التراث القبَّالي تفصيلاً لينقل عنه أو ليتيسر له إعادة صياغة الكثير من مفاهيم ذلك التراث بلغة العصر وأسلوبه، حسبه أنه عاش أكثر من نصف حياته في القرن التاسع عشر حين قام فريق من علماء اليهود الأوربيين (ومن بينهم أدولف جيلينك) بدراسة طبيعة القبَّالاه بالمنهج العلمي الغربي الحديث، وحسبه أنه كان يعيش في فيينا حيث كان جيلينك يعيش، وحسبه أن تلك العظات التي كان جيلينك يلقيها كل أسبوع كانت تظل حديث الأسبوع كله بين سكان المدينة من اليهود، وحسبه أن هذه العظات قد امتدت سبعاً وثلاثين سنة (1856 ـ 1893)، وهي السنوات السبع والثلاثون الأولى من حياة فرويد. أجل، حسب فرويد أن تكون له كل هذه الارتباطات اليهودية الأصيلة والمتشعبة والعميقة لتظل صلته المباشرة أو غير المباشرة بالتراث اليهودي قائمة وفعالة، وحسبه أنه كان يعيش في المناخ الفكري والوجداني والروحي للبيئة القبَّالية التي سادت حياة اليهود في جاليشيا وانحدر منها هو وغالبية يهود فيينا، حسبه كل ذلك لكي يتوحد بتفكيره مع الأصول التي قام عليها التفكير القبَّالي في هذا العصر أو ذاك من تاريخه الطويل، ولكي يستمد الكثير من مفاهيمه مضامينها من الأيديولوجيا القبَّالية، حتى وإن اختلفت الصياغة وتباينت أحياناً وجوه التطبيق".
( يتبع )
من اسهامات جـــــى

ما رأيك فى مدونة هاجى ؟