الثلاثاء، 30 نوفمبر 2010

الكابالا - القابالاه ( 3 )

قبَّالاة الزوهار والقبَّالاه اللوريانية  Zohar and Lurianic Kabbalah
تنقسم القبَّالاه إلى تيارين أساسيين، أو هي تيار أساسي واحد تفرَّع إلى عدة تيارات. أما التيار الأول فهو قبَّالاة الزوهار نسبة إلى كتاب الزوهار. وحينما تكون الإشارة إلى القبَّالاه بشكل عام، أو إلى القبَّالاه دون تخصيص، فإن المقصود عادةً هو قبَّالاة الزوهار («القبَّالاه النبوية» حسب تعبير جيرشوم شوليم)، وليس «القبَّالاه اللوريانية» نسبة إلى إسحق لوريا («القبَّالاه المشيحانية» حسب تعبير جيرشوم شوليم نفسه).
والواقع أن البنية الفكرية لقبَّالاة الزوهار هي البنية العامة للقبَّالاه قبل دخول الأفكار اللوريانية عليها. ويمكن الرجوع إلى مدخل القبَّالاه اللوريانية لمعرفة الفروق العامة بين التيارين. ومن أهم مفكري قبَّالاة الزوهار إبراهيم أبو العافية، وكذلك موسى كوردوفيرو آخر ممثلي قبَّالاة الزوهار، وهو أستاذ لوريا مؤسس القبَّالاه اللوريانية.
الزوهار
 «زوهار» كلمة عبرية تعني «الإشراق » أو «الضياء». وكتاب الزوهار أهم كتب التراث القبَّالي، وهو تعليق صوفي مكتوب بالآرامية على المعنى الباطني للعهد القديم، ويعود تاريخه الافتراضي، حسب بعض الروايات، إلى ما قبل الإسلام والمسيحية، وهو ما يحقق الاستقلال الفكري (الوهمي) لليهود، وكتابته بلغة غريبة، تحقق العزلة لأعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية. ويُنسَب الكتاب أيضاً إلى أحد معلمي المشناه (تنائيم) الحاخام شمعون بن يوحاي (القرن الثاني)، وإلى زملائه، ولكن يُقال إن موسى دي ليون (مكتشف الكتاب في القرن الثالث عشر) هو مؤلفه الحقيقي أو مؤلف أهم أجزائه، وأنه كتبه بين عامي 1280 و1285، مع بدايات أزمة يهود إسبانيا. والزوهار، في أسلوبه، يشبه المواعظ اليهودية الإسبانية في ذلك الوقت. وبعد مرور مائة عام على ظهوره، أصبح الزوهار بالنسبة إلى المتصوفة في منزلة التلمود بالنسبة إلى الحاخاميين. وقد شاع الزوهار بعد ذلك بين اليهود، حتى احتل مكانة أعلى من مكانة التلمود، وخصوصاً بعد ظهور الحركة الحسيدية.
ويتضمن الزوهار ثلاثة أقسام هي: الزوهار الأساسي، وكتاب الزوهار نفسه، ثم كتاب الزوهار الجديد. ومعظم الزوهار يأخذ شكل تعليق أو شرح على نصوص من الكتاب المقدَّس، وخصوصاً أسفار موسى الخمسة، ونشيد الأنشاد، وراعوث، والمراثي. وهو عدة كتب غير مترابطة تفتقر إلى التناسق وإلى تحديد العقائد. ويضم الزوهار مجموعة من الأفكار المتناقضة والمتوازية عن الإله وقوى الشر والكون. وفيه صور مجازية ومواقف جنسية صارخة تجعله شبيهاً بالكتب الإباحية وهو ما ساهم في انتشاره وشعبيته. والمنهج الذي يستخدمه ليس مجازياً تماماً، ولكنه ليس حرفياً أيضاً، فهو يفترض أن ثمة معنى خصباً لابد من كشفه، ويفرض المفسر المعنى الذي يريده على النص من خلال قراءة غنوصية تعتمد على رموز الحروف العبرية، ومقابلها العددي. وتُستخدَم أربعة طرق للشرح والتعليق تُسمَّى «بارديس»، بمعنى «فردوس» وصولاً إلى المعنى الخفي، وهي:
1
ـ بيشات: التفسير الحرفي.
2
ـ ريميز: التأويل الرمزي.
3
ـ ديروش: الدرس الشرحي المكثَّف.
4
ـ السود: السر الصوفي.
والزوهار مكتوب بأسلوب آرامي مُصطَنع، يمزج أسلوب التلمود البابلي بترجوم أونكيلوس، ولكن وراء الغلالة الآرامية المصطنعة يمكن اكتشاف عبرية العصور الوسطى. وهو كتاب طويل جداً، يتألف من ثمانمائة وخمسين ألف كلمة في لغته الأصلية.
والموضوعات الأساسية التي يعالجها الزوهار هي: طبيعة الإله وكيف يكشف عن نفسه لمخلوقاته، وأسرار الأسماء الإلهية، وروح الإنسان وطبيعتها ومصيرها، والخير والشر، وأهمية التوراة، والماشيَّح والخلاص. ولما كانت كل هذه الموضوعات مترابطة بل متداخلة تماماً في نطاق الإطار الحلولي، فإن كتاب الزوهار حين يتحدث عن الإله، فإنه يتحدث في الوقت نفسه عن التاريخ والطبيعة والإنسان، وإن كان جوهر فكر الزوهار هو تَوقُّع عودة الماشيَّح، الأمر الذي يخلع قدراً كبيراً من النسبية على ما يحيط بأعضاء الجماعات اليهودية من حقائق تاريخية واجتماعية. ويتحدث الزوهار عن التجليات النورانية العشرة (سفيروت) التي يجتازها الإله للكشف عن نفسه. كما يشير الكتاب إلى هذه التجليات باعتبارها أوعية أو تيجاناً أو كلمات تشكل البنية الداخلية للألوهية. وتُعَدُّ هذه الصورة (رؤية الإله لا باعتباره وحدة متكاملة وإنما على هيئة أجزاء متحدة داخل بناء واحد) من أكثر أفكار الزوهار جسارة، كما كان لها أعمق الأثر في التراث القبَّالي.
وقد ظهرت أولى طبعات الزوهار خلال الفترة من 1558 إلى 1560 في مانتوا وكريمونا في إيطاليا. وظهرت طبعة كاملة له في القدس (1945 ـ 1958) تقع في اثنين وعشرين مجلداً، وتحتوي على النص الآرامي يقابله النص العبري. وقد ظهرت ترجمات لاتينية لبعض أجزاء كتاب الزوهار (ابتداءً من القرن السابع عشر). كما تُرجم إلى الفرنسية في ستة أجزاء (1906 ـ 1911)، وإلى الإنجليزية في خمسة أجزاء (1931 ـ 1934). ومن أشهر طبعاته طبعة فلنا التي يبلغ عدد صحفاتها ألفاً وسبعمائة صفحة.
القــــبَّالاه النبويــــةProphetic Kabbalah
«القبَّالاه النبوية» هي قبَّالاة الزوهار. ومن أهم دعاتها إبراهيم أبو العافية، وآخر ممثليها هو موسى كوردوفيرو، أستاذ لوريا وإسبينوزا.
إبراهـيم أبو العافـية (1240-1292) (Abulafia (Abraham Ben Samuel
قبَّالي وُلد في إسبانيا، وانخرط في دراسة الشريعة والتلمود، وفي الدراسات والحسابات القبَّالية. وقد درس كذلك مؤلَّف ابن ميمون دلالة الحائرين ، ولكنه فسره وفق المنهج القبَّالي. سافر إلى فلسطين واليونان وإيطاليا، باحثاً عن أسباط يسرائيل العشـرة المفقودة. ولما بلغ أبو العافية الواحدة والثلاثين من عمره غلبته روح النبوة، وزَعم أنه وصل إلى معرفة الإله الحقيقي، وفي هذه الفترة قيل أيضاً إن الشيطان كان يشاغله عن اليمين بقصد فتنته وإرباكه، بيد أنه لم يشعر أنه بدأ يكتب بوحـي النبـوة إلا حـين بلغ الأربعين. وفي ذلك الوقـت، أي في عام 1280، عاد إلى إيطاليا حيث جذب عدداً كبيراً من العلماء اليهود الشبان الذين اتبعوا تعاليمه ثم وجدوا أن ثمة تشابهاً عميقاً بينها وبين المسيحية فتنصَّروا! وفي العام نفسه، قرر أبو العافية أن يقنع البابا بأن يتهوَّد، فقُبض عليه وصدر ضده حكمٌ بالقتل حرقاً ولكنه هرب من السجن. ثم ظهر مرة أخرى، بعد أربعة أعوام، في ميسينا (صقلية)، وأعلن أنه الماشيَّح. وقد تصدت له المؤسسة الحاخامية وفندت ادعاءاته. وربما كانت حروب الفرنجة الدائرة آنذاك تشكل السياق الدولي لدعاواه المشيحانية، كما كانت أزمة يهود إسبانيا المتزايدة تشكل السياق المحلي لدعواه. وقد كتب أبو العافية عدة مؤلفات عن القبَّالاه، وينسب إليه البعض تأليف الزوهار الذي ظهر في حياته (ولكن جيرشوم شوليم لا يتفق مع هذا الرأي). وقد أطلق شوليم مصطلح «القبَّالاه النبوية» على رؤية أبى العافية، فهو يرى أن النفس الإنسانية أصلها الإله، ولكن الحياة اليومية تستغرقها وتفرض الحدود والقيود عليها، وهي حدود وقيود لها قيمتها من حيث حفظها للفرد من أن يجرفه تيار الكوْن، ولكن كيما يتصل الإنسان بالتيار المقدَّس وبأصله الإلهي مرة أخرى، لابد من فك القيود وتجاوز الحدود. ويطرح الدكتور صبري جرجس في كتابه المهم التراث اليهودي الصهيوني والفكر الفرويدي السؤال التالي «ألسنا نرى الصلة بين هذه النظرية ونظرية الكبت وضرورة التحرر منه إذا شاء الإنسان أن يتخفف من متاعبه النفسية التي تحد من شعوره بالتحرر والانطلاق؟». ثم يستطرد قائلاً: وانطلاقاً من هذا، يصبح هدف رسالة أبى العافية هدفاً نفسياً وهو إماطة اللثام عن الروح وفك القيود التي تربطها. وقد قدَّم أبو العافية في هذا الصدد نظريته عن تركيب الحروف بغرض ملاحقة الطريق الداخلي، وتُعرَف باسم «حوخمة هاتسيروف»، أو «علم تشابك الحروف» الذي يستطيع القبَّالي بمقتضاه أن يدرك منه اسم الإله الذي يعكس المعنى الخفي للكون.
«
وثمة طريقتان لإبراهيم أبو العافية في التأمل بغية الوصول إلى ما يهدف إليه من تحرير الروح. الأولى هي الطريقة التفسيرية التي تستند إلى استخدام حروف الهجاء الأبجدية العبرية استخداماً حراً. وعند التأمل، كانت هذه الحروف تُفصَل ثم تُجمَع، وبعملية الفصل والجمع هذه كانت تظهر أفكار جديدة. وقد كان عند أبى العافية إحساس عميق بالمنطق الخفي للحروف، فترتيبها في نظره ليس مجرد عملية عرفية أو متعنتة، بل كان ترتيباً يتم وفقاً لقواعد عليا. ومن نتيجة حركات هذه الحروف، يستطيع المرء أن يصل إلى استبصار عميق بطبيعة الجوانب المقدَّسة ـ فهل من العسير علينا أن نرى، في نطاق هذا المفهوم، أن منطق عالم الإله الخفي عند أبى العافية قد أصبح منطق اللاشعور عند فرويد؟.
«
وقد كانت هذه الطريقة في التأمل تمهيداً للطريقة الثانية التي عُرفت باسم التجاوز عن طريق «القفز والإغفال». ووصف باكان نقلاً عن شوليم هذه الطريقة بقوله: سيُدهش القارئ المعاصر حين يرى وصفاً مفصلاً لطريقة كان أبو العافية وأتباعه يسمونها «القفز والإغفال» للانتقال من فكرة إلى أخرى. والواقع أن هذا منهج رائع في استخدام الترابط كوسيلة للتأمل. ولا ترادف هذه الوسيلة منهج التداعي الحر المتبع في التحليل النفسي مرادفةً كلية، ولكنها تتضمن الانتقال من فكرة ما إلى أخرى وفقاً لقواعد معيَّنة تتسم بالمرونة. وكل قفزة تفتح ميداناً جديداً له خصائصه، ويستطيع العقل داخل هذا الميدان أن ينتقل بحرية من فكرة لأخرى، أي أن القفز يربط بين عناصر من الأفكار الحرة والموجهة ويؤدي إلى نتائج عجيبة من حيث توسيع دائرة الشعور، كما أن هذا القفز يدفع على الفور بعملية خبيئة في العقل، أي أنه يحـررنا من سـجن الدائرة الطبيعية وينتقل بنا إلى حدود «الدائرة الإلهية». ثم يتساءل باكان بعد ذلك قائلاً: "ألا يُذكِّرنا هذا التقييم من قبل شوليم بمنهج أبى العافية بشــأن «الترابط الحر» في التحليل النفسي، من حيث تُعَدُّ هذه النشوة مع مضمونها الذي ينطوي، فيما يزعم لها، على إدراك الإله، هي الهدف من التأمل عند أبى العافية، ونشوة الاستبصار مع مضمونها الذي ينطـوي على معرفـة الذات هي الهدف من التحليل عند فرويد".
"
ويُعَدُّ المعلِّم القبَّالي أبو العافية شخصاً بالغ الأهمية بالنسبة لعملية التحويل التي ينبغي أن تحدث للشخص، وهذه العملية تحتاج إلى من يحركها من الخارج ومن يحركها من الداخل، والمعلم هو المحرك من الخارج. وفي حالة النشوة، يحدث نوع من التوحد مع المعلم يصبح بعد ذلك توحداً مع الإله وينتهي بتوحد سام مع الذات. وفي هذه الحالة، يكون التوحد قد تم أيضاً بين الإنسان والشريعة، ولعل هذا هو المقصود من قولهم إن الإنسان هو الناموس أو الشريعة. ويتساءل باكان أيضاً: ألا يذكرنا هذا بمعلم التحليل النفسي الذي يُعَدُّ شخصاً بالغ الأهمية في عملية التحويل التي لابد منها لمن يود ممارسة التحليل فيما بعد؟ أفلا يذكرنا ذلك أيضاً بنشوة الاستبصار التي تحدث أثناء التحليل التعليمي والتي يتم فيها نوع من التوحد مع المعلم الذي هو السبيل إلى معرفة الذات، أي السبيل إلى أن ينتقل الطالب من طور المران إلى طور الممارسة؟".
ومن المستبعد أن يكون فرويد قد درس فكر أبى العافية ومؤلفاته. ومع هذا، يجب أن نتذكر أن الفكر القبَّالي كان الفكر المسيطر على اليهودية في القرن التاسع عشر، وربما يكون فرويد قد انتظم في حضور محاضرات أدولف جيلينك الذي حرَّر أعمال أبى العافية. وفي الواقع، فإن أدولف جيلينك كان من أهم الحاخامات دارسي القبَّالاه، كما كان من أشهر الوعاظ في مدينة فيينا مسقط رأس فرويد والمدينة التي قضى فيها معظم حياته.
إسحق أبرابانيل (1437-1508) Isaac Abravanel
يهودي بلاط في إسبانيا. وهو مفسر للعهد القديم، ومؤلف لكتب ذات طابع فلسفي. وُلد في لشبونة، وكان أبوه مسئولاً عن خزانة الدولة فيها. وقد تلقى أبرابانيل تعليماً دنيوياً ودينياً كاملاً، ثم التحق بخدمة ألفونسو الخامس ملك البرتغال، الأمر الذي كان يعني أنه أصبح قريباً من النخبـة الحاكمة. ولكن الوضـع تغيَّر حينما اعـتلى جون الثاني العـرش، فقد اتبع سياسة القضاء على النبلاء والجيوب المختلفة للسلطة ليركز كل شيء في يد الدولة، وقد ثار النبلاء ضد هذه المحاولة. ويبدو أن أبرابانيل كانت تربطه علاقة بهؤلاء النبلاء، وخصوصاً أن قائد التمرد كان صديقاً له، ففر إلى طليطلة (إسبانيا) عام 1483، حيث أصبح خازن فرديناند وإيزابيلا عام 1484. وقد عمل هو وصديقه أبراهام سنيور في جمع الضرائب. كما قام الاثنان بتمويل الحروب ضد آخر الجيوب الإسلامية في غرناطة. وحينما سقطت غرناطة، صدر مرسوم طرد اليهود، ونُشر عام 1492. فحاول أبرابانيل أن يغيِّر القرار بتقديم هدية إلى فرديناند، ولكنها رُفضت وتم طرد اليهود. واستقر أبرابانيل (هو وأسرته) في البندقية عام 1503 حيث مات فيها.
ولأبرابانيل دراسات في العهد القديم، تتسم بشيء من الطابع العلمي والمنهجي، وتحولت فيما بعد إلى نقد العهد القديم. وقد حاول أن يضع النصوص المقدَّسة في سياق تاريخي. غير أن فكره الفلسفي لا يتسم بأي عمق أو أصالة. وفي السنوات الأخيرة من حياته، تبنَّى أبرابانيل رؤية صوفية، وزاد إيمانه بعقيدة الماشيَّح، ووضع ثلاثة كتب عن هذا الموضوع ( مصادر الخلاص، و خلاص الماشيَّح، و إعلان الخلاص) تُعَدُّ من أهم كتبه على الإطلاق، وتُوصَف أيضاً بأنها من أهم الكتب التي أشاعت الفكر المشيحاني وشجعت الحركات المشيحانية.
القــبَّالاه اللوريانيـةLurianic Kabbalah
أهم تطور حدث في داخل تاريخ القبَّالاه هو ظهور القبَّالاه اللوريانية (نسبة إلى إسحق لوريا). ولكن لا يمكن إغفال موسى كوردوفيرو الذي ساهم في صياغة أفكارها الأساسية (وقد تأثر إسبينوزا فيما بعد بأفكاره). ويمكن القول بأن القبَّالاه اللوريانية لا تختلف في أساسياتها عن قبَّالاة الزوهار، إذ أن البنية الحلولية القبَّالية العامة كامنة في القبَّالاه اللوريانية كمونها في قبَّالاة الزوهار. ولكن، مع هذا، يمكن أن نلخص بعض الاختلافات الأساسية بينهما فيما يلي:
1
ـ قبَّالاة الزوهار تعنى بأسرار الخلق، أي ببداية الكون، بينما تعنى القبَّالاه اللوريانية أساساً بالخلاص وبالنهاية. وينبع اهتمام قبَّالاة الزوهار بأسرار الخلق من اهتمامها بالخلاص المشيحاني بالنهاية، ولذا فهي تتناول البدايات كي تفسر النهايات.
2
ـ أسطورة الخلق في القبَّالاه اللوريانية أكثر تعقيداً وتناقضاً منها في قبَّالاة الزوهار.
3
ـ والاختلاف الأسـاسي هـو أن القبَّالاه اللوريانية تربط البداية بالنهاية، كما ربطت الباطن بالتاريخ والتأمل بالنزعة المشيحانية.
4
ـ الصورة المجازية الأساسية في قبَّالاة الزوهار هي الجنس، ولكنها في القبَّالاه اللوريانية تتمثل في كل من الجنس والنفي.
وتبدأ أسطورة الخلق في قبَّالاة الزوهار بفيض الإله الخفي، ولكنها في القبَّالاه اللوريانية تبدأ بعملية «تسيم تسوم» التي يمكن أن تُترجَم حرفياً بكلمة «انكماش» أو «تركُّز». ولكن يُستحسن تأدية معناها بتعبير «انسحاب نتج عنه تركُّز». فالإله المتخفي (الإين سوف) ينكمش داخل نفسه ليخلق فراغاً روحياً كاملاً. ويمكن تفسير هذا الانسحاب بأنه شكل من أشكال النفي، كأن الإله ينفي نفسه بنفسه إلى داخل نفسه، بعـيداً عن وجوده الكلي. وقد نتج عن هذا الانسحاب ميلاد الشر، فالحكم الصارم (الحدود والقيود التي تُفرَض على الأشياء التي ستنبع منها الأوامر والنواهي والتشريعات) كان قبل الانكماش جزءاً من كل، قطرةً في المحيط، ولكنه بعد عملية الانسحاب يتبلور ويصبح هو المحور. ثم يرسل الإين سوف في الفراغ شعاعاً ودروباً من نوره الذاتي وهي التجليات النورانية العشرة (سفيروت)، وهي مرحلة الفيض الإلهي على الكون (وتُعرف في العبرية باسم «أتسيلوت») التي أدَّت إلى ظهور آدم قدمون (الإنسان الأصلي)، وهو غير آدم أبى البشر. ويُلاحَظ أن الإنسان الأصلي في قبَّالاة الزوهار هو رمز لبناء التجليات ككل. أما عند لوريا، فهو يظهر قبل التجليات، ثم تخرج أشعة النور الإلهي من عيون الإنسان الأصلي وأذنيه وأنفه وفمه. وهذا الضوء الخارجي الذي انبثق من الإنسان الأصلي، آخذاً شكل شرارات، كان من المفترض جمعه في أوعية (كليم) من ضوء تتخذ أشكالاً تتناسب مع عملها في مرحلة الخلق. ولكن هذه الأوعية تحطمت، حسب رؤية لوريا، أثناء ملئها. ويعود هذا إلى أن الضوء الإلهي كان أقوى من أن تتحمله الأوعية فتحطمت، الأمر الذي أدَّى إلى تشتت الشرارات الإلهية وتبعثرها. ويُشار إلى هذه الواقعة بمصطلح «حادثة تَهشُّم الأوعية» (شفيرات هكليم) وهي الأخرى حادثة نفي. وإذا كان الانكماش (تسيم تسوم) هو نفي من خلال الانسحاب، فإن النفي هنا يتم من خلال الانتشار والتشتت. وقد سادت الفوضى واختلط النور والظلام، والروحاني والمادي، وهكذا دخل الشر والظلام إلى العالم. وقد عاد كثير من الشرارات إلى مصدرها الأصلي، ولكن نحو 288 شرارة التصقت بشظايا الأوعية المهشمة، وأصبحت هذه الأجزاء هي القشرة الخارجية (قليبوت)، أي قوى الشر التي أحاطت بالشرارات الباقية وحبستها.
ومنذ ذلك الوقت الذي حدث فيه هذا التهشُّم، لم يَعُد في الكون أي شيء كامل متكامل. فالنور الإلهي الذي كان يجب أن يستمر في مكان مخصص له، أي في الأوعية التي صنعها الإله، لم يَعُد في مكانه الصحيح لأن الأوعية تحطمت. وتظهر الخطة الإلهية للخلاص من خلال صور تُسمَّى «برتسوفيم» (حرفياً: «الوجوه» أو «السيمياء»، أي «القسمات» أو «ملامح الوجه») وهي مقابلة للتجليات النورانية العشرة (سفيروت) في قبَّالاة الزوهار ولكنها تأخذ هنا شكلاً أكثر بشرية وعددها خمسة:
1
ـ أريخ أنبين (عبارة أرامية وتعني حرفياً: «ذو الأنف الطويل» أي «الصبور» أو «المتحمل» أو «الذي عانى كثيراً» باعتبار أن الأنف دليل على الصبر)، وهو يقابل التجلي النوراني الأول «الكيتر» أو «التاج» في قبَّالاة الزوهار.

2، 3
ـ أبا وأما (الأب والأم). وهما يقابلان التجليين الثاني والثالث. وهما النمط الأعلى لهذا الزواج المقدَّس الذي يُعَدُّ نمطاً لكل وحدة فكرية وجنسية فيما بعد (ولنلاحظ هنا الأثر العميق للعقيدة والرموز المسيحية ولتواتر الصورة المجازية الجنسية في النسق الحلولي). وهذا التزاوج يزداد عمقاً بصعود الـ 228 شرارة التي تساقطت مع الأوعية المهشمة، والتي بعودتها إلى رحم البيناه تصبح قوة تبعث الحيوية، ولذا تُسمَّى «المياه الأنثوية» (ماييم نقفين).
4
ـ زعير أنبين (عبارة أرامية وتعني حرفياً: «ذو الوجه القصير»، أي «الذي لا يطيق صبراً»، أو «نافد الصبر»). وهو عكس «أريخ أنبين» ويقابل التجليات الستة التي ترد بعد الثلاثة الأولى من الجبوراه حتى اليسود.
5
ـ نقيفاه دي زعير (عبارة أرامية وتعني حرفياً: «أنثى زعير» أي «أنثى نافد الصبر»). وهي تقابل التجلي العاشر أو الشخيناه.
وتتخذ الذات الإلهية من خلال هذه القوى الخمس شكلاً محدداً، وتؤدي وظيفة محددة. والتجلي الأساسي للإين سوف يحدث من خلال زعير أنبين الذي وُلد من خلال اتحاد الأب والأم، ثم يكبر ليتزوج من الشخيناه ليُولِّد اتحاداً ووئاماً بين العدل والرحمة في الذات الإلهية. وتُلاحَظ مرة أخرى أصداء العقيدة المسيحية.
وتمثل هذه القوى في الحقيقة العملية التي يلد الإله بها نفسه. وحسب رؤية لوريا، كانت عملية جمع الشرارات (أي ولادة الإله واكتماله) على وشك الاكتمال حين خلق الإله آدم (أبا البشر) ليساعده في الجهد المبذول لاستعادة النظام والكمال ولهزيمة القوى الشريرة الشيطانية. وكان من المفترض أن يقوم آدم بالخطوات الأخيرة، ولكن خطيئته ومعصيته للإله أوقفت العملية، ونجم عن ذلك انتشار فوضى في الأرض تُماثل الفوضى الناجمة عن تَهشُّم الأوعية في الأعالي. فآدم، حينما خلقه الإله، كان يحوي كل أرواح البشر التي كانت توجد في حالة التصاق بالإله، وبسقوطه انفصلت الأرواح عن جذورها وتبعثرت ودخلت الأجسام المادية، وجاء الموت والشر والعالم وانحرف كل شيء عن موضعه، وأصبحت كل المخلوقات في حالة شتات دائم (جالوت)، وهي حالة مستمرة تنسحب على الكون كله وعلى الخالق نفسه الذي تبعثرت شراراته وتناثرت مرة أخرى. وقد سقطت الشخيناه ضمن ما سقط من شرارات. وما دامت الشرارات الإلهية لم تُجمَع، فإن الإله سيظل مجزأ غير مكتمل وغير متوحِّد مع نفسه.
وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن إصلاح هذا الخلل ورأب هذا الصدع، لابد أن نؤكد فكرة التقابل القبَّالية، وهي تقابل كل الأشياء واللحظات نتيجة توحُّدها النهائي. فالعالم العلوي يشبه العالم السفلي، والإله يشبه مخلوقاته، وعملية الخلق والتبعثر هي مقلوب عملية الخلاص، وطريق النهاية هو طريق البداية. ويقابل عملية الفيض الإلهي عمليات كونية مماثلة تغمر أربعة عوالم مختلفة. والنفس البشرية تشبه الذات الإلهية، ومستوياتها تشبه التجليات المختلفة، ولحظة التشتت الإلهية تشبه لحظة التشتت الفردية، ونفي الشخيناه يشبه نفي الشعب (ويُلاحَظ أن فكرة التقابل تُسقط فكرة الزمان والتتالي والاختلاف تماماً، فهي فكرة هندسية دائرية تحوِّل الزمان إلى ما يشبه المكان والبدايات تشبه النهايات). كما أن إصلاح الخلل الكوني، وعودة كل شيء إلى مكانه، وإنهاء حالة النفي الكونية، وخلاص الإله بل لادته ووجوده من جديد، هي عملية يُطلَق عليها الإصلاح (تيقون)، وهي عملية تخليص الشرارت الإلهية المبعثرة من اللحاء أو المحارات (قليبوت). وهي عملية كونية تاريخية باطنية شاملة يشارك فيها الإنسان ولكنها تعتمد بالدرجة الأولى على جماعة يسرائيل، فاليهودي الذي يعرف التوراة ومعناها الباطني (وينفذ الأوامر والنواهي ويتلو الصلوات) بوسعه أن يسرع بعملية الإصلاح (تيقوُّن)، أي عملية ولادة الإله، كما أن بوسعه أيضاً أن يوقفها إذا هو أهمل تنفيذ الأوامر والنواهي وإقامة الصلوات. وهذا من الممكن إنجازه نظراً لتقابل العالم السفلي والعالم العلوي، والتأثير في العالم العلوي من خلال أفعال يقوم بها الإنسان (اليهودي) في العالم السفلي. لكن عملية الإصلاح تدريجية، وهي تُتوَّج بظهور الماشيَّح وبعودة جماعة يسرائيل من المنفى إلى فلسطين، ومن هناك فإنه سيحكم العالم، وستسود جماعة يسرائيل على العالمين، هذا هو الجانب التاريخي. وإذا كانت حالة النفي مرتبطة بالانكماش والحدود والفرائض والانسحاب، فإن حالة التيقون مرتبطة بالتحرر الكامل من الحدود، كما أنها مرتبطة بالترخيصية والإباحية الكاملة، وهذا هو ما كان يفعله المشحاء الدجالون، وهو الجانب النفسي أو الأخلاقي للإصلاح (تيقون). وسينتهي التيقون بأن يُجمِّع الإله ذاته ويتوحد مع نفسه بعد تجميع الشرارات المبعثرة كما أنه سوف يتوحد مع شعبه (وسوف نكتشف أن الشعب اليهودي هو في واقع الأمر الشرارات الإلهية المشتتة). ومعنى هذا أن اليهود هم جزء من الإله، فهم الإله أو على الأقل أحد تجلياته. وهم إلى جانب ذلك الأداة التي تسترد بها الذات الإلهية وحدتها، فهم بذلك الأداة والغاية. وهم أيضاً سبب النفي (بذنوبهم)، وهم وسيلة العودة (بصلاحهم وتقواهم)، فاليهودي هو مركز الكون وسيده. وهكذا نُلاحظ دائرية النسق القبَّالي الحلولي المغلق.
ويُلاحَظ هنا كيف ارتبط التأمل في المعنى الباطني للتوراة، وكذلك تلاوة الصلوات وأداء الفرائض (وكلها أمور فردية ذاتية باطنية)، بحدث كوني مثل ولادة الإله، وكيف تتوحد ذاته من خلال حدث تاريخي هو ظهور الماشيَّح وعودة جماعة يسرائيل. وقد انعكس كل هذا مرة أخرى على عالم الفرد والباطن، بالترخيصية وإبطال الحدود والشرائع في العصر المشيحاني، فيتداخل الكون والإله والإنسان والزمان وكل شيء.
ومما يجدر ذكره أن تجربة يهود إسبانيا (طردهم منها) تشكل الصور المجازية الأساسية في القبَّالاه اللوريانية، فالنفي والتبعثر والتشتت كانت حقائق أساسية في حياتهم، وكان الاهتمام بالباطن دون الظاهر سمة أساسية لتجربة المارانو. وقد تبدَّى فقدانهم السلطة، مع رغبتهم الحادة فيها، في فكرة مركزية اليهود في الكون واعتماد الإله عليهـم، وتوقعهـم وصول الماشيَّح الذي سيجعلهم أسياد الأرض.
الانكماش )تسيم تسوم) Tsimtsum
لفظة «الانكماش» هي الترجمة العربية لكلمة «تسيم تسوم»، وهي كلمة وردت في المدراش لتشير إلى عملية انكماش الخالق حتى يدخل قدس الأقداس في الهيكل، وهذا هو أصلها الحلولي. ولكن إسحق لوريا استخدم الكلمة بطريقة مغايرة أو بالأحرى عمَّق مدلولها الحلولي. فالانكماش عنده هو العملية التي من خلالها ينكمش الخالق إلى نقطة داخل نفسه (الوسط) وهو انكماش يَنتُج من تركُّز (وهذا بخلاف الانكماش في المدراش حيث ينكمش الخالق ليدخل في مكان آخر غير ذاته) ثم تَصدُر عنه التجليات النورانية العشرة بعد ذلك. ومن منظور لوريا، كان الخالق يملأ الوجود باعتبار أن الذات الإلهية لا نهائية ولا تقبل التجزئة، ولا يوجد مكان لا يملؤه الحضور الإلهي. وهذه الذات لا تسمح بوجود شيء آخر، ولتتم عملية الخلق كان لابد أن تنكمش هذه الذات. ولكن هناك رأياً آخر يذهب إلى أن الانكماش هو محاولة، من جانب الخالق، لا لخلق فراغ وحسب وإنما لتطهير ذاته التي كانت تضم عناصر غير إلهية. ومن ثم، فإن الذات الإلهية لم تكن قط لا طاهرة ولا متوحدة، كما أن عملية توحد الذات الإلهية وتخليصها مما فيها من أدران إن هي إلا عملية تاريخية تُستكمَل في نهاية التاريخ. والواقع أن هذه فكرة حلولية متطرفة يعقبها حادث تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم)، وأخيراً الإصلاح (تيقون).
ويمكن تفسير بعض مصطلحات دريدا ما بعد الحداثية في ضوء فكرة تسيم تسوم، فالانكماش والاختفاء هو الغياب الكامل (الذي يعقب الحضور الكامل أو حالة البليروما في المنظومة الغنوصية) وصدور التجليات النورانية هو بداية الحضور.
تهشم الأوعية (شفيرات هَكليم)Chevrat Hakelim
«تَهشُّم الأوعية» هي ترجمة عبارة «شفيرات هَكِّليم» العبرية (من فعل «شافار» بمعنى «حطَّم»)، وتَهشُّم الأوعية مفهوم أساسي في القبَّالاه اللوريانية. وتقع حادثة تهشُّم الأوعية أثناء عملية الخلق، حينما تخرج من عيون الإنسان الأصلي أشعة النور الإلهي التي تأخذ شكل شرارات كان من المفترض أن تُجمَع في أوعية (كليم). ولكن الأوعية كانت أضعف من أن تتحمل هذا النور، فتهشَّمت وتبعثرت. والحادثة رمز شتات الشعب اليهودي، وهي فكرة حلولية مغالية تربط بين الوجود الإلهي والشعب. وتدور القبَّالاه اللوريانية حول ثلاث أفكار: الانكماش (تسيم تسوم)، وتهشُّم الأوعية، وأخيراً الإصلاح (تيقون). وهو تكوين ثلاثي يشبه تكوين: الخطيئة ـ النفي ـ الإصلاح والعودة.
الشرارات الإلهية )نيتسوتسوت) Nizozot
«الشرارات الإلهية» هي الترجمة العربية للكلمة العبرية «نتسوتسوت». والمصطلح تعبير قبَّالي يشير إلى الشرارات الإلهية التي تُحبَس في المادة بعد حادثة تهشُّم الأوعية حسب القبَّالاه اللوريانية.
إصلاح الخلل الكوني (تيِّقون) Tikkun
«إصلاح الخلل الكوني» هي الترجمة العربية لكلمة «تيقون»، وهي كلمة عبرية معناها «إصلاح». وتتحدد عملية الإصلاح بعد تخليص الشرارات الإلهية المبعثرة بعد انكماش الإله (تسيم تسوم) وبعد حادث تهشُّم الأوعية. والهدف من عملية الإصلاح أن يصل الإله إلى وحدته ويعم الخلاص العالم، وهي عملية كونية تاريخية شاملة يشارك فيها الجنس البشري بأسره، ولكنها تعتمد بالدرجة الأولى على جماعة يسرائيل. ويضمر المصطلح فكرة أن الذات الإلهية لا تشكل وحدة كاملة لا في الماضي ولا في الحاضر، وأنها ستصل إلى هذه الوحدة في المستقبل من خلال جهد الإنسان وهذه فكرة حلولية متطرفة.
موسـى كـوردوفيرو (1522-1570) Moses Cordovero
عالم قبَّالي من أصل إسباني. تتلمذ على يد يوسف كارو، ويُعَدُّ حلقة الوصل بين قبَّالاة الزوهار (التأملية) والقبَّالاه اللوريانية (المشيحانية) إذ كان لوريا تلميذاً لكوردوفيرو. أهم أعماله برديس ريموُّنيم (حديقة الرمّان)، وهو عرض واف وواضح لتعاليم القبَّالاه يتناول فيه العلاقة بين اللامحدود والمحدود، والتجليات النورانية العشرة، وعلاقة الإله بالكون. وقد كتب موسى كوردوفيرو ثلاثين كتاباً آخر، من بينها تعليق على الزوهار، أحرز ذيوعاً بين أعضاء الجماعات. وهو يُعَدُّ آخر ممثل لقبَّالاة الزوهار التأملية.
ولم يبالغ كوردوفيرو في تأكيد أهمية الرموز والأساطير القبَّالية، وخصوصاً العناصر الجنسية وأسطورة قوة الشر (سترا أحرا). وتَوصَّل إلى أن الذات الإلهية خالية تماماً من الشر، وأن جذور الشر توجد في الكون، في اختيارات الإنسان الأخلاقية.
ويبدو أن إسبينوزا قد استقى رؤيته الحلولية للإله من كتابات كوردوفيرو، فقد كتب لصديقه أولندبرج أنه استقى أفكاره من فيلسوف يهودي قديم (وكان يعني كوردوفيرو). ويمكن هنا أن نرى أن الحلولية اليهودية تتسلسل من التلمود إلى القبَّالاه، ومن القبَّالاه تتفرع إلى لوريا وشبتاي تسفي، وإلى إسبينوزا والعلمانية.
إسحق لوريا (1534-1572) Isaac Luria
ويُعرف لوريا أيضاً باسم «هاآري هاقدوش» أي «الأسد المقدَّس». ويشار إليه أيضاً باسم «الإشكنازي»، واختصار اسمه هو «آري». وُلد إسحق لوريا في القدس لأب إشكنازي يعمل بالتجارة وأم سفاردية. درس في مصر التلمود واشتغل بالأعمال التجارية، لكن الدراسات القبَّالية استغرقته تماماً. ويُقال إنه اعتكف في جزيرة الروضة في المنيل لمدة سبع سنوات حيث تأمل في الزوهار ودرس أعمال كوردوفيرو وعاش حياة الرهبان. وفي عام 1569، استقر لوريا، هو وأسرته في صفد حيث تجمعت حوله مجموعة من الطلبة والحواريين والمريدين، ومات في هذه المدينة بعد عامين. ولم يكن لوريا مفكراً منهجياً، وإنما كان متصوفاً أضاف مجموعة جديدة كاملة من الصور والرموز إلى التراث القبَّالي، وذلك من خلال تفسيراته لكتاب الزوهار التي أعلن أنها كشف أتاه به إلياهو. ولم يبق مما كتب لوريا سوى بعض مؤلفات غير مهمة لا تتضمن أفكاره الجديدة، لأنه نقل القبَّالاه اللوريانية لطلبته شفهياً، فقاموا بتدوينها ثم تداولها الناس. وبرغم وجود اختلافات كثيرة بين الكتابات التي دوَّنها تلاميذه، فإن الموضوع الأساسي يظل واحداً وهو تأكيد فكرة الخلاص والعودة، الأمر الذي يعكس النزعة المشيحانية التي بدأت في صفد وغيرها من المدن في القرن السادس عشر.
وقـبل أن يبدأ في نشـر تعاليمه الصـوفية، كان لوريا يقرض الشعر. ويضع بعض القبَّاليين أقواله في مرتبة أعلى من الشولحان عاروخ (كتاب اليهودية الأرثوذكسية الأساسي). ومن أهم تلاميذ لوريا: يوسف بن طابول، وإسرائيل ساروج، وحاييم فيتال، أولئك الذين أشاعوا آراء أستاذهم.
حـاييم فـيتال (1543-1620) Hayyim Vital
يهودي من أصل إيطالي، وأحد أتباع إسحق لوريا في صفد في آخر سني حياته (1570 ـ 1572). وبعد موت لوريا، أعلن فيتال أنه هو وحده المحتفظ بتعاليمه. وقد كان فيتال يتفاخر أمام تلاميذه بأن روحه هي روح الماشيَّح بن يوسف، وأنها معصومة من خطيئة آدم. وقد نُشرت مذكراته عن أسرار القبَّالاه اللوريانية، الأمر الذي أدَّى إلى ذيوعها، ولولاه لما أحرزت القبَّالاه اللوريانية هذا الانتشار، ذلك أن لوريا نفسه لم يترك أية نصوص مكتوبة إذ كانت الدروس التي يلقيها شفهية.
يوسـف بـن طـبول (1545- بداية القرن 17) Joseph Ibn Tabul
قبَّالي، من أهم تلاميذ إسحق لوريا. جاء من المغرب (ولذا كان يُقال له يوسف المغربي)، وانضم إلى حلقة لوريا في صفد (عام 1570) حيث مكث بعد موت معلمه. ونشأت بينه وبين حاييم فيتال بعض المشـاحنات، فذهـب إلى مصر واسـتقر فيها بضـع سنوات في شيخوخته. ويُعَدُّ شرحه لأفكار لوريا من أهم مصادر القبَّالاه اللوريانية.
إسرائيل سروج (؟ -1610) Israel Sarug
قبَّالي مصري، وُلد لأسرة حاخامية قبَّالية. تعرَّف إلى إسحق لوريا أثناء وجوده في مصر، ودرس تعاليمه. واطلع سروج على كتابات بعض أتباع إسحق لوريا (حاييم فيتال ويوسف بن طابول). وفي إيطاليا، نشر سروج تعاليم القبَّالاه اللوريانية بين عامي 1594 و1600، ومات عام 1610.
يعقـوب أبو حصـيرة (1807-1880) Jacob Abu-Hasira
هو يعقوب (الثاني) ابن مسعود. من علماء القبَّالاه، وله عدة مؤلفات عن التوراة والقبَّالاه نُشرت كلها في القدس. سافر من المغرب إلى فلسطين، وفي الطريق، نزل دمنهور حيث عمل إسكافياً، وبدأت علاقته تتوطد مع اليهود المقيمين فيها وجمعته صداقة حميمة بأحد التجار من أعضاء الجماعة اليهودية. وبعد وفاته، صرح صديقه بأن ابن مسعود توقَّع موته قبل أن يموت بأيام، وهو ما أحاط موته بهالة أسطورية. ويُقال أيضاً إن أحد أصدقائه أراد نقل جثمانه إلى الإسكندرية، وأثناء نقل الجثة هطلت الأمطار بشدة، ففُسِّر هذا بأنه تعبير عن رغبته في أن يظل مدفوناً بقرية ديمتوه القريبة من دمنهور. ويُقال إنه سُمِّي «أبا حصيرة» لأنه أثناء سفره بحراً إلى سوريا تحطمت السفينة التي كانت تقله وهوت إلى القاع ومات كل من عليها إلا يعقوب الذي استطاع أن يطفو فوق حصيرة على سطح الماء حتى وصل إلى سوريا. ومن الواضح أن هذا تفسير شعبي أسطوري لأن اسم الأسرة يعود إلى القرن السادس عشر الميلادي. وهو من كلمة «حصير» العبرية وهي من كلمة «حضرة» أو بلاط الملك. و«حصيرة» على هذا تدل على أنه كان من عائلة مُقرَّبة من السلطان بالمغرب.

وقد بنى اليهود له ضريحاً في قرية ديمتوه وكانوا يذهبون إليه للتبرك به، واتخذوا من مقبرته ما يشبه حائطاً جديداً للمبكى حيث يُقام الاحتفال بمولده كل عام. وبعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، سمحت الحكومة المصرية للإسرائيليين بزيارة المقبرة، ويأتي لها مئات القاصدين من أنحاء العالم، وبالذات إسرائيل.
وقد هاجرت أسرة أبى حصيرة من المغرب إلى إسرائيل، ومن بين أفرادها كبير حاخامات الرملة وأحد الوزراء وهو أهارون أبو حصيرة مؤسس حزب تامي الذي يعبِّر عن مصالح اليهود المغاربة.
أدولـف جيلـينك (1820-1893)Adolph Jellinek
واعظ وعالم يهودي عاش في فيينا. وُلد بالقرب من مدينة برودي، وتعلم تعليماً دينياً تقليدياً. وقد تشبَّع بالحلولية اليهودية، وبدأ يقبل علمنة اليهودية إلى أن تحوَّل لليهودية الإصلاحية، وعُيِّن واعظاً في معبد إصلاحي. وكما هو الحال في المنظومات الحلولية، تتداخل الحدود وتتآكل وتتساوى كل الأمور والعقائد. وقد أسَّس، هو وبعض الوعاظ المسيحيين، كنيسة عالمية تقبل عضوية اليهود والمسيحيين. وقد كان جيلينك عضواً قيادياً في مجلس رابطة الدفاع عن المواطنين الألمان في البلاد السلافية، أي أنه كان يدافع عن فكرة الشعب العضوي الذي لا يتغيَّر انتماؤه بتغير المكان، وهي فكرة حلولية أصبحت فكرة محورية في كلٍّ من النازية والصهيونية بعد ذلك. وفي عام 1857، عُيِّن واعظاً في أحد معابد فيينا.
وفي عام 1862، أسس جيلينك أكاديمية بيت هامدراش حيث كان هو ومفكرون يهود آخرون يلقون المحاضرات. وكان جيلينك يُعَدُّ من أكثر الوعاظ صيتاً في عصره، وقد نشر حوالي مائتي موعظة نُشرت ترجمات لها. وتتسم هذه المواعظ بأنها كانت تتناول قضايا معاصرة من خلال مناهج التفسير التلمودية الوعظية القصصية والمدراشية.
وكان جيلينك شديد الاهتمام بالقبَّالاه، فترجم دراسة عنها إلى الألمانية، وكتب عدة دراسات من أهمها الفلسفة والقبَّالاه ، كما حرَّر أعمـال إبراهيم أبى العـافية حيث بيَّن أن دي ليون هو مؤلف الزوهار. وحرَّر جيلينك كذلك معجماً بالمصطلحات الأجنبية في التلمود والمدراش والزوهار، وأعمال ابن فاقودة. وقد نشر جيلينك تسعة وتسعين موعظة (مدراش) قصيرة في ستة أجزاء تُعَدُّ في غاية الأهمية لدراسة القبَّالاه، وله دراسات أخرى تاريخية. وكان جيلينك أحد المسئولين عن مشاريـع البارون دي هـيرش التوطـينية، وقد تنـصَّر ابن جـيلينك بعد موته.
ويذكر الأستاذ الدكتور صبري جرجس في مؤلفه المهم التراث اليهودي الصهيوني والفكر الفرويدي أن عظات جيلينك هي الرابطة بين أبى العافية وفرويد. ويطرح الدكتور جرجس السؤال التالي: إذا ما نظرنا إلى التشابه الكبير بين طريقة تفكير أبى العافية ومنهجه في التفسير من ناحية، ومنهج الترابط ومفاهيم اللاشعور والتوحد والاستبصار عند فرويد من ناحية أخرى، فهل من المحتم أن يكون فرويد قد اطلع على التراث القبَّالي كما وضعه أبى العافية نصاً وتفصيلاً ونقل عنه؟ والجواب المرجح الذي يطرحه الدكتور جرجس أنه "برغم تضلع فرويد في اليهودية وإلمامه إلماماً شاملاً وعميقاً بالتوراة، ورغم تعمقه في دراسة ما ظهر من مبادئ اليهودية وما خفي، فليس من الحتمي أن يكون فرويد قد اطلع على التراث القبَّالي تفصيلاً لينقل عنه أو ليتيسر له إعادة صياغة الكثير من مفاهيم ذلك التراث بلغة العصر وأسلوبه، حسبه أنه عاش أكثر من نصف حياته في القرن التاسع عشر حين قام فريق من علماء اليهود الأوربيين (ومن بينهم أدولف جيلينك) بدراسة طبيعة القبَّالاه بالمنهج العلمي الغربي الحديث، وحسبه أنه كان يعيش في فيينا حيث كان جيلينك يعيش، وحسبه أن تلك العظات التي كان جيلينك يلقيها كل أسبوع كانت تظل حديث الأسبوع كله بين سكان المدينة من اليهود، وحسبه أن هذه العظات قد امتدت سبعاً وثلاثين سنة (1856 ـ 1893)، وهي السنوات السبع والثلاثون الأولى من حياة فرويد. أجل، حسب فرويد أن تكون له كل هذه الارتباطات اليهودية الأصيلة والمتشعبة والعميقة لتظل صلته المباشرة أو غير المباشرة بالتراث اليهودي قائمة وفعالة، وحسبه أنه كان يعيش في المناخ الفكري والوجداني والروحي للبيئة القبَّالية التي سادت حياة اليهود في جاليشيا وانحدر منها هو وغالبية يهود فيينا، حسبه كل ذلك لكي يتوحد بتفكيره مع الأصول التي قام عليها التفكير القبَّالي في هذا العصر أو ذاك من تاريخه الطويل، ولكي يستمد الكثير من مفاهيمه مضامينها من الأيديولوجيا القبَّالية، حتى وإن اختلفت الصياغة وتباينت أحياناً وجوه التطبيق".
( يتبع )
من اسهامات جـــــى

الاثنين، 29 نوفمبر 2010

الكابالا - القابالاه ( 2 )

الموضوعـات الأساسـية الكامنـة في القبَّالاه وبنيـة الأفكـار
تطورت القبَّالاه وتراثها، عبر مراحل تاريخية عديدة، من قبَّالاة الزوهار إلى القبَّالاه اللوريانية، وانقسمت إلى أشكال مختلفة من قبَّالاه نظرية أو تأملية إلى قبَّالاه عملية. وحفلت هذه الاتجاهات والحركات على اختلافها بمفكرين عديدين، لكلٍّ إسهاماته وتفسيراته. وهذا الأمر ليس غريباً على حركة ذات طابع حلولي غنوصي إذ تلفح المفسر لفحة من الحلول الإلهي فيصبح مقدَّساً وتكتسب تفسيراته قدراً من القداسة. ومع ذلك، تظل هناك موضوعات أساسية وبنية عامة كامنة (نموذج كامن) تعبِّر عن نفسها من خلال الكتابات القبَّالية. والواقع أن وجود مثل هذه الموضوعات وتلك البنية هو ما يبرر لنا استخدام كلمة «قبَّالاه» للإشارة إلى هذه الكتابات كلها.

وتوجد في القبَّالاه رؤية فيضية للخلق، ورؤية للشر وللإنسان، ولعلاقة الإله بالإنسان، وللشعب اليهودي ووضعه في العالم. كما أن التراث القبَّالي يستخدم مجموعة من الصور المجازية ذات دلالات فلسفية ونفسية وكونية عميقة. وسنحاول في هذا المدخل أن نبين تلك الموضوعات والصور المجازية التي تشكل نسيج البنية العامة. ويمكننا، منذ البداية، أن نقول إن القبَّالاه تَصدُر عن رؤية واحدية كونية تستند إلى ركيزة نهائية غير متجاوزة للنسق وإنما كامنة فيه. والبنية العامة للفكر القبَّالي بنية حلولية عضوية دائرية مغلقة حتى أن كل ما يظهر فيها من تعدُّد وتنوُّع أمر ظاهري، فداخل البنية الحلولية المغلقة تُردُّ كل الظواهر إلى مستوى واحد وتُلغى كل الثنائيات وتصبح كل الأشياء متقابلة ومتساوية بعضها مع البعض الآخر، ومع المطلق الكامن وراء كل شيء والذي يحل فيه ويتجسد من خلاله. فإذا كانت هذه البنية مُكوَّنة من (أ) و(ب) و(جـ) و (د)، على سبيل المثال، فإننا سنكتشف أن (أ) هي، في نهاية الأمر، (ب)، وأن (ب) هي مقابل (جـ) ومساوية لها، تماماً كما أن (جـ) و(د) متصلان ومتقابلان ومتساويان. ومن ثم، فإننا نكتشف أن (أ) هي (ب) و(ب) هي (جـ) و(جـ) هي (د)، وهكذا، رغم كل التغيرات والتحولات. ولكن يُلاحَظ أن العكس يمكن أن يحدث أيضاً، فبدلاً من اختفاء الثنائيات وتَوحُّدها قد تتصلب وتتحول إلى ثنائية صلبة أي ثنوية. وهنا بدلاً من أن تكتسح دائرة القداسة الجميع نجد أنها تنغلق على نفسها تماماً ويتم تقسيم العالم على أساس قطبين متعارضين: الطاهر المقدَّس مقابل المدنَّس المباح.

ويتبدَّى النسق المغلق في الرؤية القبَّالية لخلق العالم، فهذا الخلق لم يكن من العـدم، ولم يتم دفعـة واحدة كما هو الحال في الديانات التوحيدية، وإنما عن طريق الفيض الإلهي. وقد ذكر رفائيل باتاي أن رؤية القبَّالاه للإله تطورية، أي أن الإله وُجد، أو أوجَد نفسه على مراحل داخل الزمان. وقد تم خَلْق العالم من خلال عملية صيرورة مركبة بحيث يتحـول اللاشـيء الإلهي إلى الكيـان الإلهي، ويتجه من الداخل إلى الخارج. وتبدأ هذه العملية في جذر الجذور، أي في «الإين سوف» التي يمكن أن تُترجَم إلى «اللانهائي» (أو «اللامحدود» أو «العلة الأولى» أو «الذي لا نظير له») الذي لا يستطيع العقل الإحاطة به. ولكن «الإين سوف» هو أيضاً «الآيين» (أو «اللاشيء» أو «العدم» أو «التخفي الإلهي»). ولذا، فإنه يُسمَّى «الإله الخفي» الذي لا يمكن أن يكون إلهاً بالمعنى المألوف للكلمة، كما لا يستطيع الإنسان أن يصل إليه. وقد أشارت إليه القبَّالاه بأنه «المطلق» الذي يقطن في أعماق العدم، وقد انبثق الآني (أي الأنا الإلهية) عن الآيين. ويشير القبَّاليون إلى أن الآيين والآني يضمان الحروف الساكنة نفسها وهو ما يشي بأن العدم والإله هما شيء واحد.

وقد تمت عملية التحول هذه على شكل تطوُّر من الهو إلى الأنت إلى الأنا، على النحو التالي:
الهو: الإله المتخفي المنفصل عن العالمين.
الأنت: الإله الذي يعبِّر عن كيانه والذي يدركه الناس.
الأنا: الإله المكتمل المتجلي الذي عبَّر عن كماله المطلق.

وهذه هي المرحلة التي يمكن أن يقول فيها الإله لنفسه أنا، وأنا هذه هي الشخيناه، أي جماعة يسرائيل، وهي المرحلة التي يجد فيها الإله نفسه (وهذه الأفكار لها صداها في فلسفة مارتن بوبر الذي لم يكن يعرف التلمود، بل درس الفكر الحسيدي فقط وبالتالي الفكر القبَّالي). وهكذا انبثق الإله من ذاته وظهر الآني من الآيين، أي من العدم، وظهرت هذه الخاصية العلوية السماوية التي تشكل بداية الفيض الإلهي، وكان يُقال لها «الفكر الإلهي» (محشفاه)، ثم أُطلق عليها فيما بعد اسم «الإرادة الإلهية»، الأمر الذي يبين تحوُّل القبَّالاه عن العقل والتأمل الفكري إلى الإرادة والرغبة. عند هذه النقطة، تبدأ سلسلة الفيض التي تنبثق من الإرادة الإلهية (سفيروت)، وهي القدرات الإلهية الكامنة التي تتحول إلى القداسة المتجلية، والتي تأخذ شكل إشعاعات صادرة من النور الذاتي للإله على هيئة تجليات، وهذه الإشعاعات هي التي أوجدت العالم. ولذا، فإن السفيروت هي القوى الكامنة والتجليات النورانية نفسها، وهي أيضاً مراحل التجلي والبؤر والصفات الإلهية ودرجات الوجود الإلهي. لكن هذه الأشياء تشكل، أولاً وأخيراً، الوساطة بين الكون والإله وتكون بمنزلة حلقة الوصل بينهما، ولذا فإننا نترجمها بعبارة «التجليات النورانية العشرة».

وإذا كان الإين سوف يَصعُب إدراكه، فإن التجليات النورانية العشرة (سفيروت) على خلاف ذلك تماماً، فهي في مجموعها تشكل الإله الشخصي الذي يمكن إدراكه والذي يتوجه إليه المصلون (ويمكننا أن نرى الواحدية والازدواجية والتعددية). ولتأكيد الواحدية والتعددية في وقت واحد، يُشبِّه القبَّاليون السفيروت بالألوان التي يراها الإنسان في قمم ألسنة اللهب، ويقرِّرون أن عملية الفيض هذه هي الطريقة التي خلق الإله بها ذاته ثم خلق بها العالم.

ودرجات السفيروت، أو التجليات النورانية العشر، هي:
1 ـ كيتر (أو كيثر) عليون، أي التاج الأعلى، وهو أيضاً الإرادة المقدَّسة أو الرغبة المقدَّسة، ويشار إليه أحياناً بالتاج وحسب، ويساوي بعض القبَّاليين بين التاج والإله الخفي (ديوس أبسكوندتيوس deus absconditus) فهو الإين سوف وهو أحياناً الآيين.

2
ـ حوخمه، أي الحكمة، أول التجليات المتعيِّنة، وهي الفكر الإلهي الكوني الذي يسبق الخلق، والذي لا يقبل التقسيم، وهي تحتوي على النمـاذج المُـثلى التي وضعها الخـالق لكل العوالم، وهي العلة الذكرية الأولى.

3
ـ بيناه، أي الفهم، وهو عكس الحكمة، فهو العقل الذي يميز بين الأشياء، ولذا فهو المرحلة التي يتحقق فيها النموذج الخفي ويأخذ شكلاً محدداً وهي العلة الأنثوية الأولى.

4
ـ جيدولاه، أي العظمة، وأحياناً يشار إليها بلفظ «حسيد»، وهي الحب الفائض للإله أو الرحمة.

5
ـ جبوراه، أي القوة أو السلطة، وغالباً ما يشار إليها بلفظ «دين»، أي الحكم الصارم، وهي مصدر الحكم الإلهي والشريعة.

6
ـ تفئيريت، أي الجمال أو الجلال، ويُشار إليه أيضاً بلفظ «رحاميم» أي التعاطف، وهو الوسيط بين التجلي الرابع والتجلي الخامس ليأتي بالتناسق والرحمة للعالم. ويُقال إن هذا التجلي أهم التجليات، ربما لتوسُّطه كل التجليات ولدوره في عملية الخلق.

7
ـ نيتسح، أي التحمل أو الأزلية (أو النصر).

8
ـ هود، أي الجلالة أو المجد أو العظمة.

9
ـ يسود عولام، أي أساس العالم، ويُشار إليه أحياناً بلفظ «يسود» وحسب، أي الأساس، وكذلك على «التساديك»، أي الصديق، أو الرجل التقي، وهو الذي ترتكز عليه كل التجليات السابقة.

10
ـ ملكوت، أي المملكة، أو عتاراه أي الجوهرة.

وتفترض فكرة الفيض ثلاثة مفاهيم متناقضة: الواحدية والتعددية (أو الثنوية) والتقابلية. فالفيض يتم على مراحل تنتهي بجماعة يسرائيل ثم العالم. ولكل مرحلة من مراحل الفيض استقلالها وحيويتها ووظيفتها. ولكن فكرة الفيض تفترض أيضاً العكس، أي وجود وحدة تنتظم كل المخلوقات، وضمنها الإنسان، بل تنتظم الإله نفسه، بحيث يصبح الإله ومخلوقاته (أي الإله من جهة والإنسان والطبيعة من جهة أخرى) عناصر في وحدة متكاملة لها المصير نفسه ولا يفصلها فاصل. بل إن كل مراحل الفيض، رغم اختلافها، تصبح على مستوى من المستويات الشيء نفسه، وتحمل الصفات نفسها. ويرى القبَّاليون كذلك أن ثمة اتحاداً متوازياً، متقابلاً بين الإله وكل مخلوقاته، وأن السماء تشبه الأرض، والإله يشبه الإنسان، والتاريخ يشبه الطبيعة. وتقول إحدي أفكار التراث القبَّالي الأساسية:«كما في السماء كذلك في الأرض، كما في الداخل كذلك في الخارج». ومعنى ذلك أن أجزاء البنية متوازية ومتساوية متعادلة، فهي إذن بنية مغلقة لا ثغرات فيها.
وتظهر التقابلية في جميع الرموز المتواترة في التراث القبَّالي، والذي يصوِّر الإله وعملية الخلق والتجليات العشرة على هيئة شجرة، وعلى هيئة إنسان.

ويُشار إلى التجليات العشرة باعتبارها «آدم قدمون»، أي «الإنسان الأصلي» و«الإنسان الأزلي» الذي يُتوِّجه التاج، ويوجد الملكوت عند قدميه، وتشكل أعضاء جسمه التجليات العشرة. كما تشكل التجليات الثلاثة الأولى رأسه، والرابع والخامس ذراعاه، والسادس صدره، والسابع والثامن ساقاه، والتاسع عضوه الجنسي (عادةً المذكر)، والعاشر إما يشير إلى الصورة كلها أو يشير إلى الأنثى التي تصاحب الذكر أو يشير إلى عضو التأنيث. كما كان يُصوَّر الآدم قدمون وإلى يساره كل الصفات السلبية، مثل الصرامة والاحتمال، وإلى يمينه الصفات الإيجابية. والإنسان، من هذا المنظور، صورة مصغرة (ميكروكوزم) للعالم الأكبر (ماكروكوزم)، يكمن فيه كل من العالم السفلي المادي والعالم السامي الروحي وهو كذلك صورة مصغرة للإله.

 وتتكون الروح من ثلاث درجات يُطلَق عليها ما يلي:
1 ـ «نيفيش»، أي «الحيوية»، وهي مصدر القوة الحيوانية والحيوية، وتقابل الحياة المادية.
2
ـ «رُوَّح»، أي «الروح»، وهي مصدر السمات الأخلاقية.
3
ـ« نيشماه»، أي «النفس»، أعلى الدرجات الثلاث، وهي تلك الدرجة التي تجعل الإنسان قادراً على دراسة التوراة وإدراك كنه الإله. ويرى القبَّاليون أنها شرارة من بيناه (الفهم)، وأنها غير قادرة على الخطيئة. وهذه الدرجة الروحية لا يصل إليها سوى التساديك (الصديق).

وقد حاول القبَّاليون إماطة اللثام عن الروح، وفك القيود التي تربطها، بحيث يمكنها أن تتصل بالتيار المقدَّس الذي يجري في الكون كله. ويرى القبَّاليون أن العذاب في الجحيم سيحل بالنيفيش وحسب، وليس بالنيشماه. ويرى بعض القبَّاليين أن جسم الإنسان ما هو إلا رداء للشرارة الإلهية، ويرى البعض الآخر أنه جزء من الجانب الآخر، بينما يرى فريق ثالث أن وظائفه الجنسية هي الطقوس المقدَّسة التي تصوِّر ما يدور في العالم العلوي. ويظهر التقابل في نهاية الأمر في فكرة التماثل بين الإله وروح الإنسان والكون وفي تَداخُل هذه الأشياء، وهو تَداخُل ينم عن حلولية النسق.

وقد تَعرَّض القبَّاليون لفكرة الشر، وحاولوا حلها من خلال إطارهم الحلولي الواحدي أو التعددي (الثنوي)، ثم من خلال فكرة التقابل. وكان القبَّاليون يقتربون من رؤية ثنوية للخير والشر، فالشر هو «السترا أحرا» (الجانب الآخر). بل إن بعض القبَّاليين يتحدثون عن تجليات اليسار، وهي تجليات مضادة؛ قوى مظلمة دنسة تعادي قوى القداسة والخير، وتدخل في صراع شديد معها للسيطرة على العالم. ومن هنا كان اهتمام القبَّاليين بالجن سمائيل (الشيطان) وزوجته ليليت في القبَّالاه.

وتوجد شجرتان في التصور القبَّالي: شجرة الحياة المقدَّسة التي هي خير خالص لا يختلط بها أي شر أو دنس أو موت، وهي الشجرة التي كانت تحكم العالم قبل السقوط. وهناك أيضاً شجرة المعرفة (معرفة الخير والشر، والطهارة والدنَّس، والفضيلة والرذيلة) وهي الشجرة التي تحكم هذا العالم، ولذا فإن الموت مرتبط بها. وترتبط بهاتين الشجرتين رؤية ما يُسمَّى بالتوراتين: توراة الفيض وتوراة الخلق. فهناك توراة واحدة (مكتوبة) لها معنى ظاهري مرتبط بهذا العالم ويشمل الأوامر والنواهي والوصايا والشرائع والتشريعات، وهذه الأشياء مرتبطة بشجرة المعرفة. أما التوراة الثانية، فهي توراة نورانية، توراة العالم الخالي من الدنَّس، ولذا فهي لا تحوي أي أوامر أو نواه بل تدعو إلى الحرية الكاملة وإلى خَرْق الشرائع، وهي مرتبطة بشجرة الحياة المقدَّسة، وهي توراة غير مكتوبة لا تدركها سوى عيون الماشيَّح والواصلون والعارفون بأسرار القبَّالاه. ويُلاحَظ أن الرؤية هنا رؤية ثنوية حادة تشبه من بعض الوجوه كتب الرؤى (أبوكاليبس).

ولكن القبَّاليين حاولوا أيضاً الاحتفاظ بإطار من الواحدية يُفسِّر الشر باعتباره القشرة الخارجية لشجرة التجليات النورانية والمحارة الخارجية التي تلف أشكال الوجود الدنيوي أو النمو المتطرف للحكم الصارم (دين) حينما ينفصل عن تجلِّي الحب الخالص. فالحكم الصارم داخل الذات الإلهية هو مجرد قوة محايدة، ولكنه حينما ينفصل عنها يصبح قوة مدمِّرة. وفي إطار الواحدية، تذهب القبَّالاه إلى أن التجليات المظلمة والقوى الشيطانية نفسها نبعت من الإله ولكنها انفصلت عنه، وهي بانفصالها أصبحت قوى شريرة، أي أن الشر هو تحطيم مؤقت وعارض للواحدية الكونية والمطلقة (وهو، من هذا المنظور، ليس له وجود حقيقي، وهو فقط انفصال شـجرة الحيـاة عن شـجرة المعرفة). ومن هذا المنظور، يصبح الشر مجرد نتيجة جانبية وليس الجانب الآخر للقداسة الإلهية نفسها (مثل النفاية التي تبقى بعد تنقية الذهب أو الثُّفْل الذي يبقى بعد عصر الخمرة الجيدة). ولما كان الشر تفرعاً عن التجليات الإلهية، فقد كان القبَّاليون يعتقدون أن ثمة شرارة مقدَّسة حتى في الجانب الآخر. ويُلاحَظ أن الرؤيتين الثنوية والواحدية للشر (باعتبار أن الأولى ترى أن الشر له وجود مستقل ومساو للخير، والثانية لا ترى أي وجود حقيقي له) متصلتان تماماً ومتشابهتان، فكلتاهما تخلع حتمية على الشر، بل نوعاً من القداسة! وقد أدَّى هذا في نهاية الأمر إلى شيوع الفكرة القائلة بالوصول إلى الخير عن طريق الرذيلة، في أوساط الشبتانيين والحسيديين، وهذا تعبير عن البنية المغلقة على المستوى الأخلاقي.

وإلى جانب الإطار الثنوي والواحدي، حاول القبَّاليون حل مشكلة الشر انطلاقاً من صورة التقابل المجازية: فالعالم السفلي يتأثر بالعالم العلوي وبالتجليات المختلفة، فيأتي السلام والخير بتأثير الحسيد أو سفيروت الرحمة، والحرب والجوع بتأثير سفيروت (جبوراه). ولكن العالم العلوي يتأثر بدوره بالعالم السفلي، فهما متقابلان. وثمة تفسير قبَّالي لقصة الشجرة التي أكل منها آدم وحواء باعتبارها الواقعة التي أدَّت إلى فصل التجليات السفلى (الملكوت) عن التجليات العليا، وإلى انفصال الإله عن الإنسان، ومن هنا تكون الخطيئة الأولى هي الانفصال الذي أدَّى إلى نفي الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الإله) مع جماعة يسرائيل، أي أن خطيئة الإنسان قد أثَّرت في مصير الإله نفسه تأثيرها في مصير الإنسان. ومن هنا عظَم جُرم الإنسان الذي أدَّى إلى تَفتُّت الإله، ومن هنا أيضاً تأتي أهمية ممارسة الشعائر الدينية التي تجد صداها في العالم العلوي وتؤثر فيه. ولذا، يحاول أتقياء اليهود، من خلال صلواتهم وأفعالهم، أن يصلحوا الكون وأن يعيدوا الشخيناه من المنفى، وهذه هي الفكرة التي أصبحت أساسية في القبَّالاه اللوريانية ويُطلَق عليها عملية التيقون (الإصلاح)، أي إصلاح الانفصال ورأب الصدع الذي حدث بين الإله والإنسان نتيجة خطيئة قطع الشجرة. وهذه الفكرة هي أدق تعبير عن الحلولية القبَّالية. وقد وردت في الأجاداه فكرة أن الإله يعتمد على الإنسان، بل إن الإنسان شريك الإله في عملية الخلق (ولهذا، فبوسعه التحكم في الأشياء الصالحة، ومن هنا ارتباط القبَّالاه بالسحر). وفي القبَّالاه، تصبح مهمة الإنسان استعادة تناسق حياة الإله الداخلية التي تعتمد على إرادة الإنسان (ومرة أخرى، يبدو كلٌ من الإله والإنسان شريكاً في عملية الخلاص). والواقع أن هناك تقابلاً بين الإله والإنسان وامتزاجاً كاملاً بينهما في الرؤية القبَّالية.

ولعملية السقوط والانفصال أصداء مختلفة، فهي سقوط آدم وهي أيضاً سقوط أو هدم الهيكل، بل هي سقوط الكون كله. لكن جماعة يسرائيل، كما تقدَّم، هي جزء من الإله تُوجَد داخله، فهي التجلي أو السفيروت العاشر الذي هو الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الإله) التي يتم نفىها مع الشعب اليهودي، ولذا، فإن نفي اليهود خارج أرض الميعاد له دلالات خاصة تفوق حالة النفي الكونية العامة، فنفيهم يعني تفتُّت الإله وتبعثره بل نفيه. ولهذا، فإن اليهود لهم مكانة مركزية في عملية الخلاص، إذ أن عليهم أن يحيوا حياة القداسة، والتركيز الصوفي وتنفيذ التعاليم الإلهية والتمسك بالشريعة. وبذلك يأتي الخلاص لليهود وللعالم بأسره، بل للإله نفسه، إذ أن الشخيناه، وهي وجه من أوجه الإله، لن تعود إلا بعودتهم، ولن يتم اكتمال وحدة الإله إلا بهذه العودة. وبذا، فإن وجود اليهود، وكذا أفعالهم، تُشكل أساساً لاتزان الكون ولعملية الخلاص الإلهية والبشرية. بل إن رحمة الإله لا تفيض إلا بسبب أفعالهم الخيرة، فتتحول حياة اليهود العادية إلى عملية مقدَّسة يستند إليها خلاص الكون نفسه.

ويظهر التقابل، بل التطابق الكامل، بين الإله والإنسان وبين العالمين العلوي والسفلي، في استخدام القبَّاليين صورة مجازية جنسية عند الحديث عن الإله أو عن عملية الخلق. فالابن ـ وهو رمز ذكري واضح ـ (السفيروت السادس) يفيض بالرحمة الإلهية التي تنزل على التجلي العاشر الذي هو الشخيناه أو التعبير الأنثوي عن الإله، وهي أيضاً جماعة يسرائيل التي يُشار إليها بتعبير «بنت صهيون» (بات تسيون). ومن خلال التفاعل بين عناصر الذكورة وعناصر الأنوثة، تفيض الرحمة على العالمين، وتتحد الذات الإلهية، وبذلك يصبح سر وحدة الإله والكون هو نفسه الوحدة الكونية. وتُستخدَم صورة الزواج المجازية للحديث عن علاقة الإله بالشعب (ونشيد الأنشاد هو نشيد زفاف الشعب إلى الإله!). والواقع أننا نتحدث عن هذه الأفكار بوصفها صوراً مجازية، ولكن قد يكون من الأدق الحديث عنها باعتبارها مقولات إدراكية أو حتى وجوداً أنطولوجياً أكثر منها صوراً مجازية بالمعنى المألوف، إذ أن بعض القبَّاليين كانوا يدركون الإله على هذه الهيئة. والصورة المجازية الجنسية القذفية الفيضية تعبير عن البنية المغلقة.

وقد ورد في إحدى الدراسات أن الصورة المجازية الجنسية تُستخدَم لمعرفة كنه علاقات التجليات، الواحدة بالأخرى، وبالتالي فهي لا تَصدُق على علاقة الإنسان بالإله. وبناء على ذلك، يصل المؤلف إلى أن التصوف اليهودي حسب هذا الرأي يختلف عن التصوف المسيحي الذي يرمي إلى تحقيق الاتحاد بالإله، في حين تهدف التجربة الصوفية اليهودية إلى التواصل مع الإله والالتصاق به. ولكن، كما بيَّنا، تمثل الشـخيناه حلقـة وصل عضوية بين التجليـات المختلفة الإلهية والعالم السفلي، بحيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، كما أن فكرة التقابل بين الإله والإنسـان تجعل الوحـدة والحلولية الكاملة أمراً بيِّناً. وعلى كلٍّ، أثبتت التطورات اللاحقة في الحركات المشيحانية أن الصورة المجازية الجنسية كانت أساسية في تفكير القبَّاليين، وفي إدراك علاقة الإنسان بالإله.

وإذا كانت الحلولية التلمودية قد أدَّت إلى العزلة والتعالي، فإن الحلولية القبَّالية المتطرفة أدَّت إلى عزلة وتعال متطرفين، فزادت عزلة اليهود عن العالمين، ولم يَعُد الاختلاف بينهم وبين الأغيار مسألة عقيدة وإنما أصبح مسألة أصول ميتافيزيقية مختلفة، فأرواح اليهود مستمدة من الكيان المقدَّس في حين تَصدُر أرواح الأغيار عن المحارات الشيطانية والجانب الآخر. وأعضاء الشخيناه هم أعضاء الجماعة اليهودية، أما الأغيار فهم أبناء الشيطان (نتيجة اغتصاب الشيطان الابنة/الماترونت/الملكة). (يُلاحَظ أن الماترونيت هي مؤنث متاترون). والخيِّرون من الأغيار هم في الواقع أجساد أغيار لها أرواح يهودية ضلت سبيلها. وإذا كان اليهود يعيشون في الظاهر بفضل الأغيار، فإن العكس في الواقع هو الصحيح، فاليهود هم وحدهم القادرون على التأثير في قنوات الرحمة التي عن طريقها سيرسل الإله رحمته إلى العالم، وهم وحدهم الذين يقفون كوسيط بين الإله والعالم، فأعمالهم الطيبة هي التي تجعل الخير يعم الجميع، وذنوبهم هي التي تأتي بغضب الإله عليهم. ويوجد في القبَّالاه أيضاً ذلك الإحساس الذي يسري في كثير من صفحات التلمود، بأن نهاية التاريخ ستشهد عُلو جماعة يسرائيل على العالمين ودمار أعدائهم من الشعوب الأخرى.

وقد وصف الحاخامات الأرثوذكس النزعة القبَّالية بأنها تخلت عن التوحيد اليهودي، وأحلت محل الإله الواحد عشرة آلهة (التجليات النورانية العشرة). وهم محقون تماماً في هذا، فالخلق عن طريق الفيض يفترض عشرة تجليات يحمل كل منها قداسة إلهية، كما أن كلاًّ منها منفصل عن الآخر، فهي تكاد تكون عدة آلهة أو إله واحد قابل للانقسام إلى أجزاء. التجسد في حالة القبَّالاه، فهو حالة حلولية دائمة لا تنتهي وتستمر عبر التاريخ، كما أن الفكر القبَّالي يفترض الشراكة بين الإنسان والإله وينطوي على ضرب من المساواة والتعادل والتقابل بينهما.

ولكن التنوع والتعدد في السياق القبَّالي هما في واقع الأمر من قبيل الوهم، فهما مجرد مراحل وحلقات تؤدي إلى الوحدة والواحدية المطلقة النهائية، وهي وحدة تنكر الثنائية (وليس الثنوية) التي تسم الديانات التوحيـدية كافة وتتمـثل في ثنائية الجسـد والروح، والدين والدنيا. وأكثر من ذلك، فإن القبَّالاه تنكر انفصال الإله عن الكون، وتنتهي إلى وحدة مغلقة لا يتجاوز الإله فيها مخلوقاته. لكن هذه الوحدة المطلقة النهائية تنطوي على إنكار أية دلالة تاريخية وأي وجود إنساني متعَيِّن، ذلك لأن كل الظواهر المادية والروحية والمعنوية تدخل في إطار هندسي جامد وتخضع للقوانين الصوفية أو الميكانيكية أو الرياضية نفسها، أي أن التفكير القبَّالي تفكير غير جدلي ولا يرى أي تناقض حقيقي بين الأشياء، فهو يذيب حدودها تماماً، ويذيب الهويات كافة، ومنها هوية اليهود كأفراد، ولا يُبقي سوى هوية (وحقوق) جماعة يسرائيل كمركز للكون والجنس البشري والوجود الإلهي.

ولكل هذا، فإن التفكير القبَّالي يحوي داخله نقيضين: تعدُّداً من ناحية، يرى الإله أجزاء وتجليات مختلفة، ومن ناحية أخرى واحدية متطرفة لا ترى أي وجود للإله خارج مخلوقاته المادية، وهذه إحدى سمات الأنساق الدينية الحلولية المتطرفة.
الباهير
«باهير» كلمة عبرية معناها «الساطع» أو «المشرق»، وهي اسم كتاب مجهول المؤلف يُعَدُّ أقدم النصوص القبَّالية. وقد كان هذا الكتاب معروفاً في جنوب فرنسا في نهاية القرن الثاني عشر (في منطقة عُرفت بالنزعات الهرطقية)، وإن كان تاريخ تأليفه لا يزال مجهولاً، ثم انتقل إلى إسبانيا في القرن الثاني عشر أو في القرن الثالث عشر، ثم انتقل بعد ذلك إلى إيطاليا. ويحتوي الكتاب على أول محاولة لشرح النظرية القبَّالية الحلولية في الفيض الإلهي، وفكرة تناسخ الأرواح، كما يحاول الكتاب وضع أسس التفسير الصوفي لحروف الأبجدية العبرية، كما ترد في الرموز الصوفية القبَّالية في شجرة الحياة مثلاً. وقد وردت فيه كذلك فكرة التجليات النورانية العشرة (سفيروت) التي تجلت من الإله الخفي. ويعتمد كتاب الباهير على كتاب سبقه هو سفر يتسيرا (كتاب الخلق) . وبينما يميل كتاب الخلق إلى تَبنِّي المنطق الرياضي في حساب التجليات العشرة ودور كل شيء فيها وطبائع الحروف (المائية والنورانية والهوائية) نجـد أن كتاب الباهير يميـل إلى القصص الأسطوري. وقد لوحظ التشابه القوي بينه وبين كتابات بعض الجماعات الغنوصية مثل الكاثاريين (المرأة مساعد للشيطان ـ الشر نتيجة المعاشرة الجنسية بين آدم وبعض الجنيات ـ الشمال مصدر للشرور). وقد كُتب الباهير بخليط من العبرية والآرامية، وبأسلوب غامض، وبناء الكتاب غير متماسك. ويبلغ عدد كلمات الباهير اثنى عشر ألف كلمة. وظهرت أولى طبعاته في أمستردام عام 1651، وظهرت طبعة جديدة في القدس عام 1951، وترجمه إلى الألمانية جيرشوم شوليم.

التجليات النورانية العشرة (سفيروت)
«التجلِّيات النورانية العشرة» هي المقابل العربي لكلمة «سفيروت» العبرية، وهي من الكلمة العبرية «سفيراه» من الجذر العبري «سافار» المرتبط بالكلمات التالية: «سابار» (رقم) ـ «سيفر» (كتاب) ـ «سيبر» (يحكي) ـ «سابير» (لمعان) ـ «سيبار» (حدود). وكلمة «سفيروت» تعني حرفياً «الأعداد» أو «الأرقام»، ثم أصبحت الكلمة فيما بعد تشير إلى التجلِّيات الإلهية (ومن ثم فهي من أهم المفاهيم أو الصور الحلولية في القبَّالاه). وقد كانت هناك مصطلحات أخرى في بداية الأمر لوصف السفيروت أو حالة الامتلاء، فكانت تُسمَّى «الصفات» (ميدوت) أو «القوى» (كوحوت) أو «الدرجات» (معالوت) أو «الخطوات»، كما سُمِّيت «الأسس» و«الأسـماء» و«التيجـان» و«السـمات» و«القنـوات»، وسُمِّيت أخيراً «سفيروت».

والسـفيروت تجلّيـات الإشـعاعات الصادرة من النور الذاتي للإله، وهي التي أوجدت العالم، فهي جذر المخلوقات، وهي الواسطة وحلقة الوصل بين الإله والكون، فإذا كان الإله هو نقوداريشوناه (النقطة الأولى) فإن التجلّيات هي النقط (نقودوت)، وهي أداته في خلق العالم وحكمه، وهي أيضاً الأوعية التي يفيض فيها الإله، ولذا تُسمَّى أيضاً «قنوات الفيض» (سفيروت هشيفع). وهي أيضاً القوى الكامنة ومراحل التجلِّيات أو التجلِّيات نفسها، وهي نواحي الخلق وبؤره أيضاً. والتجلّيات النورانية عشرة، تركز قبَّالاة الزوهار على التأمل فيها، كما تُعنَى بتصنيفها ودراسة العلاقات بينها والهيئات التي تتخذها.
 والتجلّيات النورانية العشرة في القبَّالاه اللوريانية تقابلها الصور التي تسمَّى «البرتسوفيم» وعددها خمس. ودرجات التجلّيات النورانية العشرة هي:
1 ـ كيتر (أو كيثر) عليون، أي التاج الأعلى للإله، وهي أيضاً الإرادة المقدَّسة والعقل الفعّال (لوجوس)، ويُشار إليها أحياناً بالتاج وحسب، وهي أول مرحلة تخرج من الإين سوف أو الإله الخفي. ومع هذا، يساوي بعض القبَّاليين بين هذا التجلي وبين الإله الخفي نفسه، فهو متوحِّد تماماً مع العدم وليس بإمكان العابد أن يدركه أو يصلى له. ويخرج من هذا التجلي النوراني زوجان مختلطان جنسياً، فهو كائن خنثى.
2
ـ الحوخمه، أي الحكمة، وهو أول التجلِّيات المتعيِّنة التي انفصلت عن الإله المتخفي، وهو الفكر الإلهي الكوني (محشـفاه) الذي يسـبق الخلق، ولذا فهو يحتوي على النماذج المثلى التي وضعها الإله لجميع العوالم، ويُشار إليه بأنه الأب العلوي أو السماوي، وهو أيضاً العلة (الذكرية) الأولى. وقد تحوَّل فيما بعد من الفكر الإلهي إلى الإرادة أو الرغبة الإلهية.
3
ـ البيناه، أي الفهم أو الذكاء. وهو خلاف الحكمة، فهو العقل الذي يميِّز بين الأشياء والذات والمخلوقات. ولذا، فهو المرحلة التي يتحقق أو يولد فيها النموذج الخفي الكامن ويأخذ شكلاً محدداً. وهذا التجلي النوراني هو أيضاً الأم السماوية، وهو عملية الخلق نفسها، وهو أيضاً العلة الأنثوية الأولى، ويدخل التجليان النورانيان الثاني والثالث في علاقة جنسية خاصة إذ يتزاوجان فينجبان التجليين النورانيين السادس والعاشر، وهما أهم التجلِّيات على الإطلاق. ولكن الفيض الإلهي يستمر وتظهر التجلّيات الأخرى.

4
ـ جيدولاه، أي «العظمة». وأحياناً يشار إليه بكلمة «حسيد»، وهو حب الإله الفائض والرحمة.
5
ـ جبـوراه، أي الـقوة أو السلطة، وغالباً ما كان يشار إليه بكلمة «دين»، أي «الحكم الصارم»، وهو مصدر الحكم الإلهي والشريعة والأوامر والنواهي والوصايا، وخصوصاً النواهي.
6
ـ تفئيرت، أي الجمال، ويشار إليه أيضاً بمصطلح «رحاميم» أي «التعاطف». وهو أيضاً الشمس والابن والملك المقدَّس وعريس يسرائيل، وهو الوسـيط بين التجـليين الرابع والخامـس ليأتي بالتناسق والرحمة للعالم. وهو، كما تقدَّم، أهم التجلِّيات النورانية. ويُلاحَظ أنه يتوسط التجلِّيات، ويلعب دوراً مهماً في عملية الخلق والخلاص (وثمة أصداء واضحة هنا لفكرة ابن الإله وابن الإنسان وهي فكرة مسيحية).
7
ـ نيتسح، وهو التحمل، أو الأزلية والنصر.
8
ـ هود، أي جلال الإله.
9
ـ يسود عولام، أي أساس العالم. وهو أساس كل القوى النشيطة في الإله، وهو الذي يصل بينه وبين الأرض، ويُشار إليه أحياناً بكلمة «التساديك» (الصديق) أي الرجل النقي. ويرتكز على هذا التجلي كل التجلِّيات السابقة، كما أن الفيض الإلهي يصل إلى الشخيناه من خلال يسود عولام. ولذا، فهو يأخذ شكل القضيب.
10
ـ ملكوت، أو المملكة. وهو أيضاً عَتَراه (أو عتيريت)، أي التاج المرصَّع بالجواهر، أو الإكليل، وهي الشخيناه والماترونيت وكنيست يسرائيل (جماعة يسرائيل).
وتُقسَّم التجلّيات النورانية إلى مجموعات تضم كل منها ثلاثة: أولها التاج أو الإدارة، والحكم، والفهم، وهذه تشكل الجانب الفكري في الكيان الإلهي. أما العظمة والقوة والجمال، فتشكل الجانب النفسي أو الأخلاقي. وأما التحمُّل والجلالة والأساس، فهي تمثل القوى المادية في داخل الطبيعة. أما التجلي العاشر فيخضع لتفسيرات كثيرة، وهو القناة الموصلة بين الإله والدنيا. وتظهر الدروب أيضاً على هيئة مثلثات أو دوائر متداخلة، أو هيئة شجرة كونية شامخة جذورها في الإين سوف في الأعالي، وتمتد ساقها وأغصانها في اتجاه العالم الأرضي. وقد تم الربط بين التجلِّيات والرياح الأربع والعناصر الأربعة، وأيام الخلق السبعة والدورات الكونية السبع. كما ظهرت التجلِّيات على هيئة الآدم قدمون أو الإنسان الكوني (الأول أو القديم). وفي هذه الصورة، تشكل التجلِّيات الثلاثة الأولى رأسه، والرابع والخامس ذراعاه، والسادس صدره، والسابع والثامن ساقاه، والتاسع عضوه الجنسي، والعاشر يشير إما إلى الصورة كلها أو إلى الأنثى التي تصاحب الذكر. وعلى يسار الآدم قدمون كل الصفات السلبية، وإلى يمينه الصفات الإيجابية.
وقد صدرت كل التجلّيات عن الإين سوف الذي هو أيضاً الآيين، أي «العدم»، والذي يمكن أن نترجمه بعبارة «الإله الخفي»، وهو إله لا يمكن إدراكه ولا الصلاة له. أما التجلّيات النورانية، فهي تجليات ذاتية له، وفيض منه، وهي طريقه إلى أن يخلق نفسه. وقد كان يُنظَر أحياناً إلى التجلِّيات باعتبارها جزء لا يتجزأ من جوهر الإله، وأن مراحل التجلي تمت داخل الذات الإلهية. ولكن الرأي الغالب هو أن يُنظَر إليها باعتبارها أوعية منفصلة عنه يفيض فيها. وهذا يبين تذبذب القبَّاليين بين الرؤية التوحيدية التي ترى الإله جوهراً واحداً لا يتجزأ والرؤية الثنوية التي تقبل التعددية، وإن أدركت القبَّالاه الوحدة فهي وحدة أحادية حلولية مادية. والتجلّيات النورانية العشرة تقابلها تجلّيات عشرة مظلمة، هي السترا أحرا، وهي تجليات اليسار التي استقلت عن الذات الإلهية.
وعلاقة كل تجلٍّ نوراني (سفيراه) بسائر التجلّيات موضع دراسة مستفيضة من القبَّاليين، إذ يُنظَر إلى هذه التجلّيات باعتبارها متصلةً بعضها بالبعض الآخر، من خلال الشيفع، أي الفيض ، فتسري فيه الرحمة الإلهية وكأنها النهر. وأهم العلاقات بين التجلّيات علاقة التجلي السادس بالعاشر. فالتجلي السادس، وهو مركز النظام القبَّالي كلـه، يتلقـى فيض القوى العليا، وينسـقها ويرسـلها إلى القوى السفلى، ويجسد المقدرة الإبداعية الحيوية للتجليات ويعبِّر عنها من خلال الرموز الأساسية للذكورة، فهو كما أسلفنا الشمس والملك والعريس. أما التجلي العاشر، أي الملكوت، فهو الشخيناه أو التعبير الأنثوي عن الخالق، وهي الرحمة والقمر والملكة والعروس. ولكن، رغم أن التجلي العاشر يقع أسفل باقي التجلِّيات، فإنه ذو اليد الطولى في علاقته بالعالم السفلي (البشـري)، فيـتم تأكيـد جوانبـه الملكـية، ويصـبح هو الأم التي تتلقى سيل الرحمة التي تفيض من أعلى (من التجلي السادس).
ويتم التعبير عن العلاقة الأساسية بين التجلِّيات المختلفة من خلال صورة مجازية أو مقولة إدراكية جنسية واضحة. فالعلاقة بين الأب والأم (التجليان الثاني والثالث) علاقة جنسية واضحة، وهما في حالة مضاجعة دائمة وعناق أزلي، ومتى أراد الأب أن يقذف، فإنه يجد الأم على استعداد دائم (وهذا يذكرنا بالكاما سوترا الهندوكية). ويجب ألا ننسى أن الأب والأم هما النموذجان الأمثلان المتحققان. وقد حملت الأم من الأب، وأنجبت الابن والابنة، وكانا في الأصل كائناً واحداً أحادياً مخنثاً (ذكر/أنثى) يعبِّر عن الواحدية الكونية، ولكن الابن انفصل عن الابنة وبدأت قصة الحب بين الأخوين.
وابتعاد الأخوين هـو مصـدر الخلل الكوني، فإذا اجتمعا عمَّ السلام. وكان من المفترض، بعد عملية الخلق الأولى، أن يجتمع الابن والابنة بالمعنى الحَرْفي والجنسي، ولكن السقوط أدَّى إلى فراقهما وزاده. ويبدأ الملك في البحث عن الملكة (الماترونيت أو الشخيناه). وتصف القبَّالاه العلاقة بينهما، وكيف كان الملك يمسح ثدييها ويجتمع بها. ويصبح التجلي التاسع «اليسود» (تساديك) عضو التذكير الذي يصل بين الملك والملكة (وبالتالي يصبح شيفا الذي يفيض بالمنيّ في التراث الهندوكي). وقد خلق الإله الشعب اليهودي ليُصلح الخلل ويُقرِّب الابن والابنة. ولكن، بسبب ذنوب جماعة يسرائيل، هدم مخدع الشخيناه، أي الهيكل، فنُفيت الشخيناه معهم خارج فلسطين.
وبذلك تصبح الصورة المجازية الجنسية المقولة الإدراكية التفسيرية الكبرى في القبَّالاه، فهي تبيِّن سر الكون، ومصدر الوحدة بين الإله ومخلوقاته، وأصل مكانة الشعب المختار المتميِّزة، وهي أيضاً الطريقة التي تتوحد بها الذات الإلهية وتتحقق إذ أن توحُّد التجلِّيات هو توحُّد الإله واكتمال وجوده. وفي إحدى الدراسات، ورد أن الصورة المجازية الجنسية تُستخدَم لمعرفة علاقة التجلِّيات، الواحد بالآخر، وبالتالي فهي لا تنطبق على علاقة المخلوق بالإله. وبناء على ذلك، يصل المؤلف إلى أن التصوف اليهودي يختلف عن التصوف المسيحي حيث يرى المؤلف أن هدف التصوف المسيحي هو الاتحاد بالإله بينما هدف التجربة الصوفية اليهودية هو التواصل مع الإله والالتصاق به. ولكن الشخيناه، كما بيَّنا، تمثل حلقة وصل عضوية بين التجلِّيات المختلفة والعالم السفلي، بحيث لا يمكن فصل الواحد عن الآخر. كما أن فكرة التقابل بين الإله والمخلوقات، وهي فكرة أساسية في القبَّالاه، تجعل الوحدة والحلولية الكاملة أمراً واضحاً. وعلى كلٍّ أثبتت التطورات اللاحقة في الحركات المشيحانية أن الصورة المجازية الجنسية كانت أساسية في تفكير القبَّاليين وفي إدراك علاقة الإله بالإنسان. وإن كان ثمة اختلاف بين التصوفين المسيحي واليهودي، فهو في الهدف من عملية التوحد وفي نتيجته. فالهدف في التصوف المسيحي هو الفناء في الذات الإلهية، والثمرة هي السكينة، أما في التصوف اليهودي فالهدف هو التوحد مع الذات الإلهـية للتأثير فيـها، والثمرة هـي التحـكم. والتجلّيات النورانية هي، ولا شك، تعبير عن عودة ما إلى التفكير الأسطوري والأساطير الإغريقية بآلهتها المذكرة والمؤنثة وتصوير زواج زيوس بجونو، وهي تشبه أفكاراً مماثلة في النسق الديني الهندوكي. وبإمكان الدارس أن يُلاحظ كيف تأثر فرويد بهذا الفكر القبَّالي الذي درسه. وقد وُصفت القبَّالاه بأنها تجنيس الإله وتأليه الجنس (بمعنى الغريزة الجنسية).

التوحد بالإله والالتصاق به )ديفيقوت)Devekut
«التوحد مع الإله والالتصاق به» ترجمة لكلمة «ديفيقوت» التي تعني «الالتصاق بالإله». والكلمة تشير إلى الحب العميق للإله الذي يؤدي إلى التوحد معه، وهو مفهوم حلولي. والمصطلح يستند إلى تلك العبارة التي وردت في سفر التثنية (11/ 22): "لتحبوا الرب إلهكم وتلتصقوا به". وقد صار الديفيقوت مفهوماً مركزياً في القبَّالاه، وأصبح يشير عند إبراهيم أبى العافية إلى «الشطحة الصوفية». وهذا هو أيضاً معنى الكلمة عند الحسيديين الذين أصبح الدفيقوت هو العنصر الأساسي في عبادة الإله عندهم. ولكن الالتصاق بالإله لا يعني الخضوع له أو الفناء فيه وإنما يعني التوحد به، وهو توحُّد يـؤدي إلى معرفـة الإنسـان سـر الإله وطبيعته وكنهه بحيث يمكن التأثير في الإله والتحكم الإمبريالي في الكون.
التفسيرات الرقمية (جماتريا) Gematria
«التفسيرات الرقمية» هي الترجمة العربية لكلمة «جماتريا»، وهي كلمة مأخوذة من اللفظ اليوناني «جيومتري» ومعناه «هندسة». ومنهج الجماتريا هو منهج في شرح كلمات من العهدين القديم والجديد، ويستند إلى تحليل القيمة العددية لحروف الكلمات العبرية التي يعتبرها المفسرون القبَّاليون وغيرهم مقدَّسة. وقد ظهر هذا المنهج بين معلمي المشناه (التنائيم) في القرن الثاني الميلادي، وورد في التلمود مائة وخمسون حالة استخدام للجماتريا، ثم ساد هذا المنهج بين المفسرين بسيادة الفكر القبَّالي وطموحه الأساسي للوصول إلى العرفان أو الغنوص أو الصيغة الهندسية التي تؤدي إلى التحكم في العالم. وتُفسِّر العبارة التي وردت في سفر التكوين (14 /14) «318 عضواً في بيت إبراهيم» بأنها تعني «خادم إبراهيم»، لأن القيمة العددية لاسم هذا الخادم هي 318. وكلمة «ريدو»، وهي بمعنى «اهبطوا» الواردة في سفر التكوين (40/2) وتُفسَّر بأنها تشير إلى عدد السنوات التي قضاها شعب يسرائيل في مصر وقيمتها 210 سنوات (فالراء = 200، والدال = 4، والواو = 6). وقد استخدم القبَّاليون الجماتريا لتحديد تاريخ قدوم الماشيَّح. ويتميَّز منهج الجماتريا بأن المفسِّر الذي يستخدمه يمكنه أن يستخلص من خلاله أي معنى من أي نص. فالعهد القديم مليء بالكلمات التي يَسهُل اختيار المناسب منها لتتلاءم مع الرقم الذي يريده واضع الحساب. وكان هرتزل يكتب خطاباته أحياناً بطريقة لا يمكن فهمها إلا باستخدام منهج الجماتريا في التفسير.
التجلي الأنثوي للإله (شخيناه) Shekhinah
«التجلي الأنثوي للإله» تعبير تقابله كلمة «شخيناه»، وهي كلمة عبرية تعني حرفياً «السكون»، أو «الهجوع». وهي تشير في الأدبيات الدينية اليهودية إلى الحضرة الإلهية، أو حلول الإله في الإنسان والعالم. ويرى بعض علماء الدين أن ثمة علاقة بين فكرة الشخيناه، وفكرة اللوجوس في فلسفة فيلون. ويرى باتاي أن الشخيناه ـ أصلاً ـ إلهة كنعانية قديمة هي ملكة السماء وأن اليهود قاموا بعبادتها في المملكة الجنوبية قبل سقوط أورشليم، ويُقال إن بعض اليهود الذين فروا إلى مصر استمروا في عبادتها مدة طويلة بعد ذلك.
وقد جاء في العهد القديم (خروج 25/8، ولاويين 16/16) أن الإله يسكن وسط شعبه. ويؤكد التلمود أن الحضرة الإلهية لا توجد إلا في وسط الشعب. ولعل الشخيناه تتلبس أيضاً في اليهودي حينما ينفذ التعاليم الإلهية. وهي تتحول إلى حقيقة فعلية، أي تتجسد في الأشخاص والأماكن والأشياء ذات القداسة، وخصوصاً في ساعات الدروس الدينية والصلاة، أي أنها تتجلى داخل الزمان والمكان وفي الشعب اليهودي بأسره، ويرمز الضوء عادةً للشخيناه.
وفي التراث القبَّالي، تُعَدُّ الشخيناه أهم التجلِّيات النورانية العشرة (سفيروت) على الإطلاق، فهي السفيراه أو التجلي العاشر والأخير الذي يربـط بين الإله ومخلوقاته لأنهـا الحلقة الأخيرة وأقربها إلى العالم الأرضي، وهي التعبير الأنثوي عن الإله الذي يتلقى الفيض الإلهي (أو المنيّ الإلهي) ويوزعه على العالمين، وهي الابنة والماترونيت والملكة والقمر الذي لا يشع نوراً وإنما يعكس نور الشمس. وهي أيضاً راحيل التي تبكي من أجل الشعب، وهي الشفيعة بين الإله والإنسان (وهي في هذا تشبه العذراء مريم في اللاهوت الكاثوليكي الذي تأثر به القبَّاليون). وهي أخيراً كنيست يسرائيل أو شعب يسرائيل أو جماعة يسرائيل، وأعضاء الشخيناه هي أعضاء الشعب اليهودي. ورغم أنها آخر التجلِّيات، فإنها ذات اليد الطولى في علاقة كل التجلّيات بالعالم السفلي البشري، كما تجري المساواة بين الشخيناه والتوراة ويُقرَن بينهما.
والشخيناه، باعتبارها ابنة أو ملكة، كانت جزءاً من كيان واحد مخنث يضم الابن/الملك المقدَّس (السفيراه السادس) الذي انفصل عن أخته، ولكنه يبحث عنها دائماً ويطاردها، ولن يتم إصلاح الخلل الكوني الناجم عن سقوط الإنسان إلا بالجماع (الجنسي) بينهما. وقد خلق الإله الشعب اليهودي لإصلاح الخلل، وكان الكون قد اقترب من لحظة الخلاص هذه، حين اتحد الابن/الملك (في صورة موسى) مع الشخيناه فوق جبل سيناء. وكاد ينصلح الخلل، ولكن خطيئة العجل الذهبي أعادته مرة أخرى. ومع ندم الشعب على فعلته، بدأت مرة أخرى عملية الإصلاح التي أخذت شكل غزو أو اقتحام كنعان (هذا الاقتحام الذي يكتسب هنا معنىً جنسياً)، ثم بناء الهيكل الذي حلت فيه الشخيناه وتوحَّدت بالشعب (ويُلاحَظ أن كلمة «يحوِّد» العبرية وتعني «توحد» هي الكلمة التي تُستخدَم في النصوص الشرعية القانونية للإشارة إلى الجماع). وبسبب ذنوب جماعة يسرائيل هُدم مخدع الشخيناه، أي الهيكل، فنُفيت الشخيناه معهم خارج فلسطين.

وهدف الحياة الآن هو توحُّد (يحوِّد) الابن مع الشخيناه، فكلما زادت ذنوب جماعة يسرائيل زاد نفي الشخيناه وزاد بعدها عن الابن، وكلما حافظوا على الوصايا والصلاة وتنفيذ تعاليم التوراة ازداد اقتراب الابن من الابنة. وحتى يقوم اليهودي بدوره في عملية اليحود (الاجتماع/الجماع)، فإن عليه أن يردد الدعاء التالي قبل أن ينفذ أحد الأوامر أو النواهي، وقبل أن يؤدي صلاته: «من أجل توُّحد (يحوِّد) الواحد المقدَّس، الحمد له مع أنثاه (الشخيناه)». والشخيناه المنفيَّة البعيدة عن الابن/الملك/الشمس، يهجم عليها الشيطان سمائيل ويغتصبها، بل يهجم عليها آلهة (أو أشباه آلهة) آخرون، ويتمكنون جميعاً من السيطرة عليها وتملُّكها والتمتع بها. وقد كانت ثمرة هذا الاغتصاب خلق الأغيار الذين يرضعون منها، تماماً كما كان يفعل اليهود حينما كانت الشخيناه بينهم. ورغم أن الشخيناه هي العنصر الأنثوي، فإنها العنصر الأقوى والأكثر فعالية من العنصر الذكوري. وحينما تحين لحظة الانتقام من معذبي اليهود، ستتحول الشخيناه إلى وحش كاسر تقود جنوداً خرافيين. وهي بذلك (حسب رأي باتاي) تصبح مثل آلهة العذاب التي تُلحق الأذى بالجميع دون تمييز، وتصبح المرأة الكونية المدمرة التي تبتلع آلاف الأنهار: تتجه أيديها وأظفارها في جميع الاتجاهات ولا يهرب من قبضتها أحد. وسيخرج من بين ساقيها شاب هو الملاك ميتاترون الذي سيدمر العالم. ويُقال إن الشخيناه، في حالتها هذه، هي «السترا أحرا» أي (الجانب الآخر من الذات الإلهية) «قوى الشر».

وقد أثارت فكرة الشخيناه قضية الشرك والتوحيد. فهي يُنظَر إليها أحياناً كمجرد تجلّ للإله أو حتى كأحد أسمائه. ولكن أحد كتب المدراش جاء فيه فقرة يُفهَم منها أن الشخيناه مادة منفصلة عن الإله، وأنه وضعها بين جماعة يسرائيل، وأنه يتحدث معها أحياناً. والشخيناه، كما تَقدَّم، حلَّت في الهيكل، ولذا فقد أدَّى هدمه إلى صعودها إلى السماء أو إلى نفيها مع الشعب (وهناك رأي يذهب إلى أن جزءاً منها بقي حالاًّ في حائط المبكى يتأوه ويبكي من أجل الشعب). وخلاص جماعة يسرائيل يعني أيضاً خلاص الشخيناه. وهناك عبارات وطقوس وأدعية كثيرة يُفهَم منها تَجسُّد الشخيناه وتَجزُّؤها. ولابد أن فكرة التجسُّد هنا صدى للاهوت المسيحي أيضاً.

وقد حاول الفلاسفة اليهود أن يعيدوا تفسير فكرة الشخيناه بحيث يبعدون عن الإله أي تشبيه أو تجسُّد. ولذا، قرر سعيد بن يوسف الفيومي أن الشخيناه كيان مخلوق منفصل تماماً عن الإله، وبهذا احتفظ للجوهر الإلهي بوحدته. وقد قال: إن الشخيناه، مثل الملائكة، وسيط بين الإله والإنسان، وهي النور الذي يراه الأنبياء أثناء الوحي الذي يأخذ شكلاً بشرياً أحياناً. وقد تبعه موسى بن ميمون في ذلك. أما نحمان كروكمال، فقد حاول تفسيرها تفسيراً هيجلياً، فهو يرى أن لكل شعب قوة روحية، ولكن قوة الشعب اليهودي الروحية متجذرة في الروح المطلقة نفسها، وتأخذ أكثر الأشكال صفاء ونقاء، وتُدعَى الشخيناه. وهذا، حسب رأي كروكمال، ما كان يعنيه الحاخامات، حينما كانوا يقولون إن الشخيناه كانت تسير مع الشعب اليهودي. فهي هنا مثل فكرة الشعب العضـوي (فـولك) الألمانية التي نبـع منها الفـكر النازي. أما هرمان كوهـين، ففسرها بأنهـا الراحة المطلقة والأساس الأزلي للحركة. أما بوبر، فيعود إلى فكرة الانقسام والثنائية الأولى، فالشخيناه تعني أن الإله لم يهجر شعبه قط رغم كل معاناته وإنما يحل فيه وبينه. وتزداد الحلولية عند روزنزفايج، فالشخيناه جسر بين «إله آبائنا» و«بقية يسرائيل»، أي البقية الصالحة، كما أن نزول الشخيناه إلى اليهود وسكناها بينهم يعني الانقسام داخل الإله نفسه، فهو ينزل ويعاني مع شعبه يتجول معهم في منفاهم، بل إنه في نهاية الأمر يعاني أكثر من الشعب وتتحمل البقية الصالحة في يسرائيل أحزانه (وفي هذا صدى لفكرة الصلب المسيحية).

الـدورات الكونية Cosmic Cycles
لم تتناول القبَّالاه علاقة الإله بنفسه، أو علاقته بالبشر، ورؤية الكون وفكرة الشر، وحسب، وإنما حاولت أن تقدم رؤية للتاريخ أخذت شكل الدورات الكونية. وحسب هذا الرأي، يتكون الزمان الكوني، أي تاريخ الكون من البدء حتى النهاية، من سبع دورات تتكون كل واحدة منها من سبعة آلاف عام. وتتكون كل دورة من وحدات طول كل واحدة منها سبع سنوات، في نهاية كل منها تقع السنة السبتية أو سنة شميطاه. ويتحكم في كل دورة أحد الكواكب السبعة. وفي الدورة الخمسين (النهائية) سيحطم الإله العالم، فيعود إلى حالة الهيولي أو الفوضى الأولى، ثم تبدأ دورات أخرى.
وفي رواية أخرى، يتحكم في كل دورة كونية أحد التجلّيات النورانية العشرة (سفيروت) ابتداءً من التجلي الرابع، فالثلاثة الأولى خامدة كامنة خفيَّة، ولا تتحكم في أية عوالم خارجة عنها. وتخرج العوالم السبعة، التي تناظر التجلّيات النورانية السبعة (4 ـ 10)، من البيناه (الفهم)، وهي تُسمَّى أم العوالم. وبعد ستة آلاف عام، يحل الألف السابع، وهي مرحلة تحل فيها الدورة الكونية، ثم تظهر دورة كونية تالية تتحكم فيها السفيراه التالية حتى الدورة السابعة حينما ينحلّ كل الزمان في اليوبيل الكوني، ويعود الكون للبيناه، وتبدأ الدورات من جديد.
وكان الرأي الغالب بين القبَّاليين أن العالم الآن في دورة الجبوراه أي العدالة الصارمة، ولذا فإن الدورة السابقة كانت دورة حب الإله الفائض أو دورة الحسيد.
ولكل دورة تفسيرها الخاص للتوراة. فالكلمات باعتبار أنها دوال، تظل كما هي، أما المدلولات فتتغيَّر تماماً. ولذا، فتوراة الدورة السابقة لم تكن تضم أياً من الفرائض (الأوامر والنواهي). وقد ذكر القبَّاليون أن بعض أرواح الدورة السابقة ظهرت مرة أخرى في هذه الدورة، ولذلك يستطيع أصحاب هذه الأرواح أن يقرأوا التوراة السابقة، ويمكنهم كذلك أن يخففوا عبء الأوامر والنواهي بل أن يبطلوها تماماً. وهذا ما فعله شبتاي تسفي وفرانك وغيرهما من أصحاب الحركات المشيحانية الترخيصية.
ويمكن التوصل إلى أن الدورة الزمنية الأخيرة، دورة الشخيناه، سترى سيادة أعضاء جماعة يسرائيل، باعتبار أنهم متوحدون معها، وهكذا ينتهي التاريخ بانتصار اليهود. وترتبط فكرة الدورات الزمنية بأفكار أخرى مثل التناسخ والآدم قدمون. ومن الواضح أن فكرة الشعب المختار والعودة هي فكرة تعويضية يحاول اليهود أن يشكِّلوا من خلالها رؤية للتاريخ تحقق لهم ما لم يتحقق في التاريخ الفعلي. ويُلاحَظ أيضاً أن القبَّالاه بشكل عام، وفكرة الدورات الكونية بشكل خاص، تدل على أن أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب كانوا يشعرون بمدى ثقل الحمل الذي وضعته عقيدتهم على كاهلهم، وبدأوا يبحثون عن مخرج من هذه الورطة. وقد كانت الحركات المشيحانية الترخيصية تحقق لهم ذلك، ثم جاءت الصهيونية لتطرح نفسها بديلاً عن اليهودية، ولتضع اليهود فوق اليهودية، ولتجعل منهم شعباً مثل كل الشعوب لا شعباً مختاراً ينوء تحت نير الاختيار. وغنيٌّ عن القول أن فكرة الدورات الكونية تلغي أي إحساس بالتاريخ وتركز على البدايات والنهايات فقط، وهذه سمة أساسية في فكر الجماعات الوظيفية وفي الفكر الصهيوني. ( يتبع )
من اسهامات جـــــى

ما رأيك فى مدونة هاجى ؟